تستطيع فاتنة الغرة - هل اقول تلقي بنا ؟ - ان تضعنا ، في حومة الشعر ، ولكن بحنان رقيق ، مثلما يمكـــن ان تضع الانثى الولهى ، وليدها الغض ، النابض المستكين ، المطمئن بعدُ ، لصروف الدهر، بتؤدةَ وحرص ، على وسادة وثيرة طاهرة غضة بريئة رقيقة ساحرة ، اعتبارا ، من الصفحة الأُولى ، من كتابها ، ذي التسمية الدالة : إلآي......!
إلا ان ذلك الحنان والحرص وتلك التؤدة ، ماهي ، إلا حيلة من الحيل ، حركة مكر من حركات المكر، طعم لذيذ من الطعوم ، لأنها ، ما أن نلتقطه ، ونستعذب مذاقه ونتورط به ، حتى تتركنا ، وحيدين ، غرقى ، وجها لوجه،
في لجة خطره القاتلة، متنحيةً عنّا جانبا. بل انها لتظل ، تتفرج علينا ، ونحن نخوَض لجته تلك ، غير عارفين ، على أية بقعة آمنة ، من البقع ، ستقذف بنا عاتيات الامواج ، تلك الامواج التي ما أن حَرّشّتها علينا ، وأثارت عنفوانها ضدنا ، حتى ألقتنــا في لجتها الصاخبة!! بينما نحن لم نعد نعرف حتى ،هل ثمة ، من بقعة آمنــــــــة ، فعلا ، لنا !! وهل ابقت لنا ركنا ما ، في زاوية ما ، يتوفر ، علــى قدر ما ، ولو ضئيل ، من الدفء؟؟
.. انها شاعرة متفوقة الموهبة ، المكر احد اسلحتها المتطورة ، بدرجة عالية من الكفاءة ، فموهبتها تلك مزودة بأظافر أنيقة ، ملونة ، لكنها خطرة ، قدرُها ان تجرح ، وإذا جرحت ان توقع بالغ الأذى ، وإذا اوقعت بالــــــغ الأذى ، ان تقتل ، وإذا قتلت ، فان تُميت ..
ومرة أخرى أقول أنها شاعرة ، من نوع غير متعارف عليه ، فهي ذات ذاكرة ، ليست جاهزة ، وإنما ذاكـــــرة، لا تتشكل ، لا تنوجد – وبالكيفية المدهشة التي تتشكل وتنوجد بها – إلا لحظة انغمارها ، في الممارسة الشعرية ، والممارسة الشعرية ، عندها ، لا تختلف أبدا، عن الممارسات الكبرى ، في حياة الكائنات الإنسانية عمومــا ، أي انها فعل حياة جمــــالي خالص ، أي فعل خلق ، لاغنى لمن هو مرهف القلب ، مرهف المشـــــــــــــاعر ، عن الاستغراق فيه .. فهل أن ذلـــــك عائد ، إلى امتلاكها لمهارة الشاعر وقوة التأثير ، اللذين يمكنانها ، مـــــــن أن تسرق القارئ ، من غفلته – وأعظــم القراء موهبة ، يعيشون ، في الغفلة ، الى ان يتمكن نص ما ، من ان يصدم ذائقتهم المستنيمة المسترخيـــــــة – لتضعه حالا ، في حمأة صلصال الخلق ، وكأنها لاتضع يده ، إلا على لوغوس اليوم الأول للوجود ؟؟ ربمـــــا ..
ولكي ندلل ، على أن كلامنا ، ليس مرسلا ، على عواهنه ، وإنما يمكن ان نستخرج من الكتاب، آنــــــف الذكر، نفسـه ، برهانا ساطعا، علي صدقه ودقته ، فسنقتطع هذا المفتتح ، الذي ، يعطينا فكرة سحريةً وافيةً، عـــــــن الكيفية غير الاعتيادية ، لإنوجاده السحري ، غير الاعتيادي ، فهي تقـــــــــــــول :
كانت الأرضُ تُتمُ دورتَها الأولـــــــــــــــــــــــى
حين اصطدمت ببركة فانتفض منها
كتابٌ ، كان أن جاء فيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــه ..............
إذاً .. فإنها تريد ، ان توقع في ظننا ، في ضمائرنا القصية عن التأثر إلا بما يؤثر فيها فعلا، بلا واسطــــــــــة أو تدخل (والشعر العظيم ، بالمناسبة، يستطيع ان ينظف الضمائر ، من التلوث ، الذي يلحق بها، أو أن يقلل مـــن نسبته فيها) ، في حسنا الجواني غير القابل للمس ، إلا من قبل أقدس الأصابع – وقد تمكنت من ان تفعل – أن كتابها هذا، لم يكن قد ولد ولادة مبتذلة مثل باقي الكتب ، وإنما كانت له ولادة مختلفة ، ولادة راقية ، مشرّفة ، ولادة خارقة، ولادة مغرقة في غموضها وميتافيزيقيتها ، ولادة تُريد أن تُشرك الكون في حدوثها ، لأنها ليست إلا ولادةً كونية ، ولا تحدث ، إلا على مرأى من أعين الكائنات.. ولكن فلنتابع جملتها الاخيرة في مفتتح كتابها ، حيث ختمتها قائلة : كان أن جاء فيه .. فلنر ما الذي جاء فيه :
فيما يرى النائم ..
كانت الوردة تحبو ، بإتجاه السمــــــــــــــــــــاء
رافعةً تيجانها لها
تخلع أرديتها ، واحداً تلو الآخر.
تتلو صلواتها للربيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع ..
تستحمُ بوهج اللحظة الاولــــــــــــــــى..
كان الشجرُ يسجدُ ...
وكان ذلك شيئاً عظيـــــــــــــــــــــــــــــــــما .
إن الجملة الأخيرة ، على بساطتها ، وربما ، بسبب تلك البساطة ، فإنها لاتحيل مخيلاتنا، إلا إلى جهـــة ، نحن نعلمها وتفرد لها ذاكراتنا ، مكانة خاصة ، مكانة لم تُحرز تلقائيا، وإنما لأنها لاترتبط بدواخلنا ، اعظم إرتباط ، إلابوشائج سايكلوجية قديمة قدم العالم ذاته.
وبعد بضع ضربات خلابة ، لكنها ليست ملونة ، إلا بألوان صارمة دقيقة ، بواســـطة ريشتها اللبيبة ، وكل تلك الضربــات ، لاتقع ، إلا تحت عنوان : فيما يرى النائم ، وبعد ان تمكنت ، من ان تقنعنا ، خلالها ، بأن كتــــابها هذا، كتــــــاب مختلف ، لأن ولادته لا تحدث ،إلا بالتزامن ، مع ولادة الكون ذاته ، أو بالتوازي معه - حتى مع معرفتنا ، بـــأن ولادته ليست متأخرة ، عن ولادة الكون ،إلا ببضعة آلاف ملايين السنين فقط - وهذا هــــــــــــو مبتغــــــاها ، وهو ما تريــــد إيصاله لنا ، فإنـــها تُطلعنا ، على الكيفية التي وُجد بها ، هذا الكتـــــــــــاب ، حيث تقــــــــول:
فيما يرى النام ...
كان الوقت صباحا جــــــــــــــــــــــــــــــــدا ..
الشمس بعدُ ، لم تفقد عذريتها .
الراعي يجرُ غنمه ، للمرعى .
الكون هاديءٌ ، مفعمٌ بالســــــــــــــــكون .
وهي ترشف فنجان قهوتها ، على شرفة
بحجم الفضاء .......
وكان كتاب النوم هذا ، ملقى تحت قدميها
وكان ذلك ، هو الشيءُ العظيــــــــــــــــــم ..
هذا ، وإن الإحالات والإشارات ، إذ تتعدد ، وتنتظم ، لتتشكل ، على هذه الكيفية السحرية، حيث تجترحها فاتنة الغرة - على الشاكلة الفذة ، التي تجترحها ، عليها - فإنها تفتح ، بمفتاح سحري ، هو أيضا ، وذلك ، في الفراغ الفسيح ، الفراغ ذي الطباع الثعبانية ، الفراغ المراوغ ، الفراغ المتموج اللعوب ، الفراغ الحرج الخشن ، غيـــر
القابل للإمساك به ، قوسا عملاقا ، ذا ألوان عديدة مدوخة ، قوسا ينحني بحنان ، ضاما طرفي الوجود ، برقة تحت جنحيه الرأومين، يوقظ الحواس ، خاطفا إياها خطفا ، من زمن سباتها الدهري الموغل في خدره البليد ، ليضعها ، على عتبة اليقظة ، فاتحا عينيها على اتساع الأجفان ، رافعاً إلى مستوى راق ، من قدرة أدائها ، ليغطي ملامح الوجود برمته ، من لحظة الولادة الخالدة ، تلك اللحظة المترنحة في مبتدأ انبثاقها ، بين الإنمحاء والانبعاث ، إلى لحظة حلول العنف في جنباته .. ولكن فاتنة لا يبدو انها محتاجة إلــــــــــــــــــى تفاصيل كثيرة ، لترويها لنا ، عن العنف ، لأنها تستحث مخيلتنا ، لكي نتذكر تلك التفاصيل ، ضمنا ، من تلقـــــاء ذواتنـــا ، حتى خلال لحظات هناءتنا الكبرى ، وليس بشكل منفصل أبدا ... أما أن تخلُصَ ابتداءً من لحظــــــــــــــــــــة انوجاد الكـــــــــــــــــــون – الكتـــــاب - كتابها(إلآها؟؟؟؟؟) وحتى لحظة تلوث الكون ( وليس الكتاب ، فالكتاب بقي هو هو، مقدساً ، مبرأً من التلوث والدنس ، على الرغم من تلوث الوجود ، من حوله ، حالهُ حال الكتاب المقدس ، وكل الكتــب المقدسة الأخرى) فإن ذلك لا يمكن أن يُعد إلا ابتكارا واجتراحا عظيمين ، ومامن واسطة لهما ، مامن واســطة لتحقيقهمـــــا سوى الشعر ، وما أعظمها وما ارفعها ، وما انزهها ، وما اطهرها ، من واســـطة !!
ترى !! ما هي الممارسة الجمالية الأخرى ، غير الشعر ، التي كان يمكن ان تكون فاتنة الغرة ، متخذةً منـــــها ، واسطةً للتحاور مع الوجود ، لو أنها ، لم تكن ، تجيد فن ، كتابة الشعر؟ الجواب ببساطة هو، الشعر نفســــــه ..
فهي .. حتى لو كانت مضطرة ، لاختراعه ، لو لم يكن ، قد تم اختراعه ، فعلا ، من قبل!! أو لاختراعه من جديد إذا كان موجودا ثم وجدت انه ، قد أُبتُذل ، على أيدي ، طغمة ، من المتطفلين عليه ، غير العارفين بكيفية التعامل ، مع روحه الحر اليقظ النزيه ، فلست أظن انها ستتقاعس عن فعل ذلك أبداً، بل انها ستخترعه ، بالبساطة نفســها التي تتناول فيها قدح قهوتها الصباحية الساخنة ، وهي تفكر افكار الصباح الاولى ، الطازجة الحارة ، التي تأتــي وتذهب ، متلاشيةً ، مع بخار القهوة الذائب المتلاشي ، أمام عينيها .. ان لها ، لإلتصاقٌ تراجيدي بالشـــعر ، وأنا هنا لا اتحدث عما هو تراجيدي ، في نصوصها ، وإنما عن ذلك التلاحم القدري العنيف ، مع الشعر، الـــــــــــذي يحدســـــــــه القارئ، في طبقات التلافيف العميقة ، لنصوصها ، ببساطة، حتى لايمكن تصورها ، تحيـــــــــى لحظةً واحدة ، دون ان تمارسه ، سواءً ، أكان ذلك كتابةً أو قراءةً لــــهُ ، أو تفكيرا مستغرقـاً فيــــــــــه :
أراكَ ، كيف إنتفضتَ كورقــــــــــــــــــــــــــــــــــة ..
وكيف ذاب ملحُكَ الصخريُ ، على سجادة رباعية
كيف فتحتَ أناملَكَ لإمتصاص خصر الهـــــــــواء
حين شكّلَ لوحةَ رموشك .
وكيف إستقر الزمانُ العتيق ، في أخضرك .
وعندما إستقام الكلام ...
تعطلت آلة المكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان .
لكن ماالذي أرادت الكاتبة قوله ، من خلال نصوصها ، في كتابها ( إلآي) !! وما الذي يمكن استخلاصه منــــــــه عموما ؟؟ في الحقيقة لا شيء محددا أبدا .. لأنها أرادت ان تقول معانيَ كثيرةً ، من خلال بثها معان مختلفة، ناثرةً إياها بثراء ، في كل جملة خطتها أناملها !! ونحن نعرف ان الكتب الحيويـــة ، لاتكون مقتصرةً على حمل معنى واحد بعينـــه، وإنما تتعدد فيها المعاني وذلك ما يجعلها ، غنية المحتـــوى ، ومهمة في حياة الناس .
فالكتاب الحامل لمعنى واحد ، في تضاعيفه ، لا يكون ، في حقيقة أمره ، إلا حاملا سر حتفه ، ولذلك فإن مثل تلك الكتب ، ليست معمرة .
لقد أرّخَت الشاعرة ، للحظات سرية ، من حياتها الخاصة ، لحظات لا تعرف إلا هي ذاتها ، اهميتها ومغـــــــزاها وطعمــــــها ، ومنزلتها من عموم سني حياتها ، وهي لحظات ، ربما عادلت ، بقيمتها ، ازمنةً كاملة ، قياســـــاً ، إلى أزمنة أخرى ، غير أن اللغــة ، في مثل تلك الحالات ، لا تمنح نفسها ، ولا تتبسط ، مع المتلقي ، وإنما تتحول تركيباتها ، إلى نوع من اللعبـــــــــة الحروفيـــــــــــة ، شفرتها ، ليست كامنة ، إلا في قرارة نفس كاتبها . ومــع ذلك فإن القارئ ، تصله منــــــــها ، إيحاءات غنية جـــــــــدا ، ربما أصابت ذهنه بالــــــــــــدوار:
أدعوك لعنبي ، فَالجَنيُ مرٌّ
وذائقة الحُصرم لا تقاوم
أتأملُ انزلاق وقــــــــــــــــــــــــــــــــــــودك
فيطلقُ الجليدُ أنفاسَهُ ، في رئتــــــــــــــــــي
وتقول أيضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا :
أنت ياالطالع ، من زبد
يا القاطع ضوءَ المسافة باشتعال
يا الممتد ، نهراً طولياً ، لم أنزله بعـــــــــد
يا الدافع ، في دهاليزي ، كومة شمـــــــــع
أربَكَ حضورُكَ الجُمَلَ المتأهبةَ ، فـــــــي
رحيل ، لمشهد ، لم يكتمل بعد ..
عن ( شهريار )

0 التعليقات
إرسال تعليق