تفتش في حوائط الناس وفي ملابسهم عن شيء يشبهك تماماً ولا يقاربك في شيء.
تتلمس في عيونهم.. في أصواتهم ذكرى وجع من هنا أو رائحة حريق شب منذ زمن سحيق ومازالت جمرته بالداخل تعوي في انتظار هبة ريح خفيفة.. أن تشدك التفاصيل الهامشية والسخيفة والملقاة على قارعة ذاكرتنا وأبصارنا من قمصيك فتغدو مهووساً بها إلى أن تحيلها مملكة للغة وتخترع بها كوناً جديداً وعالماً موازياً..
أن تصيبك الحمى فلا تجد لبدنك سريراً يحتضنه ولا أرضاً يطأها ولا سماءً يرتقي إليها علّه يبلغ الأسباب فتصبح مثل ريشة تحملها اللغة أينما ارتحلت تسوقها ..
أن يغذيك ابتسام طفل أو شجار عاشقين على ناصية طريق في انتظار القطار والعاشقة تدور حوله تسترضيه ويشيح عنها حتى تعيده لحضنها وأنت تمتص ذلك كله بعين مفتوحة على الفرح.. أن تصيبك ضحكة ابن أخيك بوجع يقرص القلب بمتعة خالصة لا تعرف لها موطناً وأن يأخذك صوت أمك إلى حجرها الذي صلبت عليه مطولا فاستنفذت طفولتك فيه ولم تشبع بعد.
أن يكون صوت الحبيب هو الوطن وأن يأخذك حضنه إلى مناطقك الأولى الآمنة .. فيصبح الوجود كله حيث يكون -حتى لو لم تكن معه- وتتلخص اللغة كلها في كلمة يقولها لك أو بسمة من عيون عابثة يلقيها باتجاهك..
أن يرتجف كل ما فيك حينما تستشعره قادماً باتجاهك, أو حينما تذهب لملاقاته فتنفصل ذراتك كلها عن بعضها في الطريق إليه لتعود لتتجمع بين يديه, وتعود للإنفصال من جديد في دورة لن تنتهي إلا بالرحيل المؤقت.
أن تأخذك الأشجار العارية في طريقك حيث بكارة كل شيء وحيث التجول بلا أقنعة وبلا زيف نصطنعه أو تلقيه على وجوهنا الأيام والتجربة فتتوحد معها حتى تكاد لا تبين وسطها ..
أن تخرج في شارع ممتلئ بالغرباء وبأصحاب العباءات السود وبالمنتحلين والمعتنقين أفكاراً مسبقة تلقي بأسمالك البالية أمامهم وتمشي منتشياً بحرية لم تذق طعهما إلا اللحظة وتصرخ حتى يفسخ الصراخ وجوههم ويسقط تجاعيدهم المتكومة فوق بعضها وأنت ترى هذا كله ترقص حولهم منتشياً بتجليك إلى الأعلى,كأن الكون خلق كله في هذه اللحظة بالذات ليتوجك سلطاناً أو شحاذاً, لا فرق.
أن تنهض من عمق نومك وكأن أفعى لدغتك في قلبك جسدك ينتفض وينزّ ماءً وأعضاؤك ترتجف ويدك تمتد نحو جهاز وكيبورد, أو نحو دفتر وقلم, لا فرق أيضاً.
أن تعوي وتعوي وتعوي فوقهما حتى لا يعود هناك مكان لأي عواء جديد
كل هذا فيض من البكر الأول والوحيد للعنة ... الشعر.

0 التعليقات
إرسال تعليق