_ "مالذي تحاول أن تقوله لي؟!!"..
هكذا بدأت الحديث _ أو أنني كنت أتحدث قبل ذلك _ مع صديقي الطويل الناحل، وأنا أخب الطريق مسرعا إلى جواره..
همهم ببضع كلمات مضت أدراج الريح وأنفاسه..
لم أفهم شيئا.. كان يحرك يديه شارحا أمرا ما..
كان بائسا، كأنه المسيح بعد تخلي الله عنه..
وصلنا إلى إشارة مرورية، تجاوزها لا مباليا، فيما إنتظرت على الرصيف حتى يخلو الطريق لأعبره..
كان يمضي وقد إخترق زحام السوق الشعبية _ أكان سوق "الرَبُوْعْ"* ذاك _ متحدثا وشارحا لأمره اللامفهوم، ودون أن ينتبه إلى أني لم أعد بجواره.. أو أنه لم يكترث..
((صيني بَلَالا))**..
سمعتها مناداة من أحدهم فجأة، مصحوبة بإطار كبير محشو بالحجارة يتدحرج على الإسفلت مُصَوَّبَاً بإتجاه حفرة لتصريف المياه على الشارع حيث أطل برأسه منها رجل صيني، عبثا حاول تفادي الإطار إلا أنه إنتبه للفخ بعد فوات الأوان..
فيما دوت الضحكات، وإزداد حدة النداء ((صيني بلالا))، قطعت الشارع مسرعا قبل أن يصوب نحوي أحدهم إطارا محشوا..
خضت الزحام مسرعا مجاهدا للحاق بصديقي، ماذا يقول عليه غضبتي؟!!..
ولكنه إختفى..
لم أعد أراه بين الأماكن والبشر والشوارع..
تقدمت متلفتا فيما حولي، وثمة سكرانين يغنيان فصاحا بي فجأة وبنشوة:
"هيه، أليس الأمر كذلك؟!!"
أيُّ أمر ؟!!..
"ما يقوله صديقك؟!!"
نعم، نعم، إنه كذلك!!..
ولكن، أين إختفى رغم طول قامته ..
رأيت إمرأة بدينة تهتز راقصة جذلة، يبدو أنها من إحدى شعوب أمريكا اللاتينية، أو جزر الكاريبي..
أم تراها من غجر أوروبا قادمة للتو من الهند.. تتغنى حبا بالفتى الذي إعتلى واقفا على قدميه عربته التي يجرها حمار _ الچاري _ وهو يغني أغنية هندية من أغاني أفلام "بوليوود"، ملوحا بشال على الهواء مسميا نفسه "شاكا"، إجتاز مصحوبا بلعنات المتسوقين سوق "الربوع" بسرعة وطيش دون الإكتراث بأحد، وعلى شفتيه زبد المنتصر صارخا:
((ميري مهپد زندقيه))..
لم تكن بالتأكيد لهجة ذمارية وإن شابهتها..
بمحاذاة حانوت شعبي وقفت لألتقط ما تبعثر من أنفاسي/أفكاري..
تطلَّعتْ إليَّ ربة الحانوت، كانت برازيلية على ما فضلتُ إعتبارها، في الأربعينات وقد إكتملت أنوثتها التي قُطِفَ منها الكثير، ومازالت تحمل أكثر..
_ (نبيذ لو سمحت !)
قلت لها، فالتفتت إليَّ وإبتسمت بمعنى أن مالديها لا يتعدى سوى بضع معلبات من هواء "روما"، فابتسمت لها وقلت:
(لا عليك)..
إلا أنها ناولتني شيئا ما لآكله، قائلة:
"اليمن، والبرقوق!"..
ثم واصلت مضغ شيئ ما، وأشارت لي بمعنى أن أنتظر حتى تفرغ لتستطيع الكلام..
كيف عرفت بأني من اليمن؟!!..
لابد وأنها قد رأت خضرة القات في عينيَّ، رغم أني لست من ماضغيه..
على أي حال، يبدو بأني قد غادرت المكان دون أن تكمل حديثها..
إنتظرت في زاوية ما.. وكان الشارع قد نفذ من مرتاديه وأصبح الوقت صباحا باكرا..
وبدأت الطيور إستيقاظها..
ولم أعد أذكر لِمَ أو لمن كنت واقفا منتظرا..
حينها وصلت عدة عربات نقل كبيرة، وبدأ بالمرور عليها مفتش يلقي بأوامره هنا وهناك، وفي يده رزمة من أوراق، من الواضح بأنه من يعطي تصاريح البيع في هذه السوق..
إنما، يُخَيَّلُ إليَّ بأني أعرف هذا المكان.. هذه الساحة الصغيرة ذاتها كنت أملك عليها حانوتا للدعاية والإعلان، أو أنني مازلت أملكه !!...
فهمت الآن سبب وجودي هنا.. لابد وأنني ذاهب لفتح الحانوت ..
مرَّ المفتش في هذه اللحظة على آخر عربة نقل وعاين حمولتها، والتي من المفترض أن تكون (كُرَّاثَاً)..
وصاح مناديا صاحبها الذي كان خلف السور..
صاح مرة أخرى فأجابه صوت من بعيد: "نعم، أنا صاحب العربة.."
(كلابٌ آدميَّة)..
وصف المفتش بضاعة الرجل _ الكُرَّاثِ _ بالكلاب الآدمية..!!!....
كدت أنفجر ضاحكا، إلا أن غضبي حال دون ذلك..
كيف تحول نظام البلاد إلى هذه السوقية لفظا وتجارة ؟!!....
ومتى ومن أعطى لهذا المفتش الحق بالتحدث مع البشر هكذا ؟!!...
ظهر صاحب العربة من خلف السور وسأل:
"ماذا قلت؟!!"
"كلاب آدمية!"
رد عليه المفتش، ومضى يعبر الشارع منتفخا بشاربه الكث، وبطنه المنتفخة..
"شكرا لك!!"..
قال صاحب العربة.. وكأن المفتش قد إمتدح بضاعته..
"كلاب آدمية"..
إستمرت العبارة في الطنين..
فيما تطلعت صوب حانوتي القابع على أطراف الساحة غارقا، والمدينة بزرقة الصباح الأولى..
تلك الزرقة الباهتة..
"كلاب آدمية"..
عبرت الساحة، وألقيت نظرة على الشجيرات الثلاثة المرتفعة بإخضرارها..
تأملت الثالثة منهن أكثر.. ومضيت..
لا أرى فرقا بين هذه الشجيرات الثلاث..
فكيف إِعْتَبَرَ الثالثة كلابا آدمية ؟؟!!!....

لم أفهم..

كلاب آدمية..

هم يبيعون كلابا آدمية إذن !.



علاءالدين البردوني، روما


---------------------------------

*سوق "الربوع" نسبة إلى يوم الأربعاء، وهو السوق الرئيسي لمدينة ذمار _ ٩٠ كيلومترا تقريبا جنوب صنعاء _ يعمل طوال أيام الإسبوع، إلا أنه نُسِبَ إلى يوم الأربعاء نظرا لأنه اليوم الذي يزداد فيه نشاطا حيث يتوافد إليه الباعة والمشترون من كل أنحاء القرى المحيطة بالمدينة.
**((صيني بلالا))، هكذا كان يسمى العمال الصينيون من قبل اليمنييون _ الأطفال بالذات _ مشاكسة لهم وكانوا من أوائل الأجانب الذين عملوا على رصف الطرق والتصريف الصحي للمياه على شوارع المدن في ستينيات القرن الماضي.

0 التعليقات

إرسال تعليق