| 0 التعليقات ]



نبدأ الرحلة باتجاه الشرق...أغلب الوقت ،حيث تستدرج الجبال الغيم ،وتسحبه صوبها ،فلا يصيب الأطراف الا القليل..و كراحات أيدينا نحفظ الدرب إلى "مدحاء"...ومسار الغيم. نحن الذين احترفنا قص الأثر مذ كنا أطفالا نقتتل فى المقاعد الخلفية.لسيارة العائلة الأثريّة،فيما يتبادل والدانا الإبتسام في فخر وحب لإنجاب قبيلة،لا تستنكر شغفا فاتناً بالماء ...حد مطاردة السحاب..!

أجمل المطاردات تلك التي تمنحنا مكافآت المثابرة باكرا،فتتمزق صرة الغيم فجأة..وينفجر المطر كماء خلف سد مكسور،يغمر كل شيء،وعلى امتداد البصر..
لم تبدُ الأمور مشجعة هذه المرّة..أَخَذَت كِسَر الغيم الأسود تنحدر سريعا صوبنا..ونحن ما زلنا نشق الهواء الطري إلى مدحا..
مدحا...دون القرى التي تتناثر أمامنا...نجوم مطفئة ...والوقت..يخرج من أحشاء ظهيرة كأنها منتصف الليل.


"مدحاء"! ..عشق أبى الأول...خضرتها ..تربتها وسحرها الغامض...حتى أنه كان يقول لنا أنها تنام على مخازن وسراديب تحت الأرض..ومقابرها تحمل شواهد من رخام ..فى وقت لا يرتفع فيه شاهد قبر..ولا يكتب على ضريح. "مدحا" التي يقف على مدخلها عمودين من بياض مرقّّم بالأحمر.يحذرك...متى ما طغى الماء..كي لا تعبر قنطرة المطر فتشقى...مدحا التي...


لكن "مدحا" كانت بالنسبة لنا. مجرد مكان بعيد جدا...أخضر فطري محاصر بالجبال..و الأفلاج..وذكرى أبانا الذي رحل ذات يوم مطير يشبه هذا اليوم...وأوصانا بها..كما لو كانت من بقية إرثه لا أرضا عُمانيه!


فجأة صدحت طيور الرعد..وأعقبها انهمار الماء السريع..وما وصلنا إلى مدحا.. .

صرنا نتبع السيارات المتثاقلة ببطء يصعب على الاحتمال..والماء يشق طريقه ويسير أوديه تمتليء بسرعة البرق، كأن المطر ينبع من الأرض لا يسقط فوقها ..منذ زمن لم يحدث مثل هذا الذي يقترب من السيل..بل لا يذكر أحد..
هول كبير راح يتجمع حولنا..واختفى الابتسام والفرح الصغير ونافسه قلق راح يتصاعد مع بخار الأنفاس والهواجس ، فضبّب النوافذ..وصعّب الرؤيه..


بدأت الماكنة الجبارة تئن...وتبطيء..معطلة قافلة السيارات التي أطلقت أبواقها في إثرنا كلاب صيد لحوحَه...فحدنا عن الطريق...وسرنا بحذر ناحية اليمين..مبتعدين شيئا فشيئا عن نهر السيّارت..وكنا قد دخلنا فى الصمت..ولم يعد أحد منا يقترح على السائق حتى مسح الزجاج الذي أمامه من البخار..بعد أن زمجر مرتين وهو يتوعدنا ويتهمنا بأننا نربك قيادته للسيارة ونشوّش تفكيره..
صار الظلام واضحا...وصار واضحا أننا ندخل في الضياع و الخوف وننسى أننا جائعون..والمطر يعصف بنا من كل صوب..
فجأة..غطى على الرعد صراخنا كلنا دفعة واحده حين هوى بنا الشارع الذي قصمه جريان الماء الراكض كهزة أرضيه .. وتركنا معلقين بين الفراغ ونصف شارع إلى المجهول..!


تدثرنا بما تيسر وخرجنا بحذر، فى قرار موحّد بأن لا نموت فى صندوق حديدي..إذا كان لا بد من الموت...وبدا لنا انه قرار صائب.رغم أن المطر الآن تحول الى ما يشبه ملايين الصنابير التي فتحت دفعة واحدة عن آخرها..وما من مكان فى مجال الرؤية يمكن اللجوء إليه والاحتماء...و السيل يجرف فى طريقه كل خفيف وضعيف ..حتى أننا توهمنا رؤية بعض الدجاج..وقطة وشجرة عائمه!
كنا نغذ السير الى وجهة غير محدده ...ملتصقين ببعضنا في محاولة لتشكيل كتلة يعجز الهواء والماء عن جرفها أو التغلب عليها، حين لاح بيت قديم...
بيت! فى لا مكان تقريبا..لم نتبيّن شكله ولم يهمّنا من أين نبت..لكننا ركضنا صوبه بلا تفكير..نسابق المطر والريح والوقت..وخوف صغير يتكوم في جوانحنا ويرتفع كتلال لم تعبرها الرياح...


هللت العجوز الضئيلة النشطة ورحبت.. وقادتنا صوب غرفة قصيّة..ونادت على ولد نحيل جاء مهرولا ..ثم غاب ممتثلا لأوامرها بإحضار ما نتدثر به..


دخلنا نرتجف بملابسنا المبتلة وجوعنا وإرهاق تزايد مع اقتراب الليل ،وتحلقنا حول مدفأة يستعر فيها جمر من خشب أشجار السمر..دسّت العجوز بين احمراره حبات من الفندال..وغابت قليلا لتحضر وعاء من حليب الماعز الساخن ..وإبريق شاى معدني منقوش بالأزرق والأصفر.وبيض مقليّ وخبز رقاق يابس ..تهافتنا عليه بلا وعي..أو خجل...وهى ترقبنا بحنان وتنظر للولد بين الفينة والأخرى وتبتسم..وتسامرنا كجدة رحومة تعرفنا منذ ولدنا!


حكت لنا عن السيول..والليالي.والمزرعة الوحيدة والنخيل العطش..والهوش..ورحيل آخر الأولاد...وهي تضحك في صفاء يرن كأجراس بعيده..وقالت أن أسمها "مدحا"!


توقفنا عن مضغ الطعام وبعضنا كانت يده في الهواء في الطريق إلى فمه ،تلفتنا ننظر إلى بعضنا بابتسام وغرابه...ولم تتمالك "شمسه" نفسها فقالت..كنا ذاهبين إلى "مدحاء"..فضحكت العجوز قائلة: وصلتم!


في تلك الليلة صحت شقيقتاي على العجوز مرتين وهى تغطيهما ،وقال فهد كأنه لمحها تتأكد من دفء المكان بتقليب الجمر.وفى الفجر..خبزت لنا أشهى أرغفة من القمح..ما زال طعمها على ألسنتنا..


ثم أوصلنا الولد حتى نهاية الطريق حيث تلقفتنا دورية الأمن.


أعطيته بطاقتي وحلّفته أن يزورني متى جاءوا نواحينا.. شقيقتاي حلّفتاه أن يحضر الجّدة "مدحا"..


لكن الأثر انقطع بخروجنا من حصار الماء في ذلك اليوم الغريب.


أقول لشقيقتي...هل تذكرين ذلك العام الذي انكسر فيه الشارع وتحطمت فيه ماكينة "الرنج" في المطر الشديد..


تتحفز "شمسه" بحماس: نعم كانت تلك العجوز حانية بشكل غريب..كان خبزها معجونا بالحنان وناضج على نار الطيبه..كانت ملاكا ضئيلا بجناحين فارهين. من المحبه....كانت...وكانت السماء تمطر كأنها عازمة على غسل ذنوب الأرض دفعة واحده...


وتسألني "غايه" ما إذا فكرت أن أذهب ذات يوم..صوب مدحا..وأتوقف لأسلّم على العجوز الملاك والولد النحيل...فأقول بشكل قاطع: طبعا طبعا.ولكن مشاغل الحياة كثيره..


ولم أذكر لهما أبدا..أنني حين ذهبت مع فهد بعد أن خفّت الأمطار لنقطر السيارة،فكرنا بزيارة لرد الجميل، علّ العجوز والصبي تأثرا بالسيول...لكننا حين وصلنا..لم يكن هناك بيت...ولم يعرف أحد "مدحا" أو يسمع بالولد..وأن كل ما وجدناه فى ذلك العراء الرطب،يافطة طريق معدنية خضراء ترتفع في وجه الريح نحو قامه..مكتوب عليها بالطلاء الأبيض المقشور من جانبين:


مدحاء...10 كم.!


______________________________________

فاطمه الناهض/الامارات..


*ولايه عمانيه (تابعه لمحافظة مسندم )داخل حدود الامارات.مقفرة ومهجورة تقريبا الان بعد ان تحول سكانها(3 آلاف) الى الجانب المسمى مدحاء الجديدة تعتبر متحفا طبيعيا للنقوش الأثريه المنتشرة ولطبيعتها الأخاذه.

0 التعليقات

إرسال تعليق