وحين يدلف من البوابة الحديدية الصدئة،سيلفت انتباهه صخب متفاوت الارتفاع سيظنه لعب أطفال أول الأمر..
سينادي..ولا من مجيب..
يدور في الفناء الخارجي للمنزل فيرى الأتربة والغبار قد غطت الجزء الأكبر منه.. بحيث لم يعد ممكنا رؤية الأرض المرصوفة بعناية بقطع الآجر الأحمر..دون أن يحك التراب بمقدمة حذائه أو ينحني ليبعد التراب بأصابعه عن ما يبدو أنه كان في يوم من الأيام باحة مبلطة بجرانيت متدرج في ألوانه،حول بقايا، كانت ذات يوم نافورة صغيرة، مكونة من إتحاد عدة أجساد صغيرة ،لأطفال صمموا ليدلقوا الماء من أفواههم المكورة في وعاء رخامي تغطيه الطحالب و قشور بيض بنيّة اللون لكائنات، الله وحده الأعلم بفصيلتها.
ينكص على عقبيه عائدا للخارج بعد أن نادى مرتين أو ثلاث..دون مجيب..لكنه يلمح الباب الداخلي مفتوحا..والأصوات الصادرة منه كأنها تستحثه على الدخول.
يتراجع ويدخل..وينتفض فجأة حين يرى رجلا وامرأة وولدين منهمكين في ما أمامهم من أعمال تناوشهم على شاشات مضيئة وتستأثر بكامل انتباههم...إنتفض واقشعر لأنه اعتقد أنه اخترق حيز خصوصيتهم وأمانهم..كان يريد أن يسألهم فقط عن بيت أخيه الذي لم يره من زمن طويل..لكنهم بدوا مشغولين تماما، ومنصرفين تماما..وذائبين فى ما أمامهم تماما..
قال كلمتين.فلم يرد عليه أحد...أضاف جملة يشرح بها قصده من اقتحام بيتهم هكذا..فلم يرفع صوبه أحد عينا..ولا انتبهوا لوجوده..
جال ببصره فيما حوله..هاله جبل العلب الورقية للمأكولات الجاهزه...وزجاجات المرطبات..نصف المشروبه...الرائحة العطنه....الهواء الثقيل...والتراب الخفيف العالق في فضاء الغرفة التي يجلسون فيها..على هيئة أشباح مسنّة..بالكاد تطرف منها الأجفان..ولا تتحرك منها غير الأصابع كل حين..
.ورغم أن الوقت لم يكن متأخرا(السادسة مساء) إلا أن الغرفة بدت معتمة..ورطبة كأن الشمس تمنعت عن القدوم الى المكان...تاركة إياه عن قصد..ليهترىء فى غيبوبته المتقطعه.
أجفله صوت بعيد ..كأنه قادم من الطابق العلوي للمنزل..أوشك أن يغادر سريعا..لكن الأشخاص الجالسين لم يأبهوا للصوت،.كما لو أنهم اعتادوا سماعه.الرجل رفع رأسه قليلا ونظر جهة اليسار..ثم عاد إلى ما كان يفعل..البقية لم تكلف نفسها عناء حركة إضافيه..
الوجود الشبحي للعائلة كان مقلقا..ولا يبعث على التساؤل فقط لكن على التوجس أيضا..
كانت ملامحهم باهته تدخل فى صفرة ذابله..عيونهم تميل إلى الحمرة ..وشعورهم مسترسلة غير مرتبه..وهيئاتهم بحاجة الى عناية قاسية لتحك معدنها الحقيقي...
يعود الصوت من الطابق العلوي من جديد..يجفل من جديد. لكنه يخف ناحيته ظاناً أنه ربما يطلب العون..
وكما أقشعر من منظر الأشخاص الشبحي المريب...جمّد الدم فى عروقه..منظر يافع يضع سماعة أذن ضخمة على رأسه..ويصرخ موجها تعليماته إلى جنود ضائعين بين مبان منهاره..آمرا إياهم بالتراجع والإنسحاب...
لم يعره اليافع التفاتة..ولا رف الهواء أمام نصف جسده الذي أطل به على الفتى..
تراجع وقد داخله شعور بالهلع...ونزل الدرج على مهل كمن يدوس على ذكريات فى نزعها الأخير..وغبار خفيف أزرق يملأ مساحات الفضاء المرافق لخطواته الحذره..
كان قد وصل إلى مجموعة الأشباح الأحياء..من جديد...الذين بدوا سعداء...باسمين فى برودة المصير الغريب...فى نفس جلستهم التي لم تتغير...مثبّتين عيونهم على ما أمامهم فى خرس تقطعه أنة أو آه او أمممم فقط....كانت الوجوه بلا ضياء المفارقات..بلا نور الاشتباك لإنساني البهيج...والأعين مطفأة لم تقع على غير الزجاج العاكس لحياة ميته.. تسحبهم إليها فى جوع وشراهة لا تضاهى..
نظر الى صورة على طاولة جانبيه ميز فيها الأم والأولاد وأبيهم..كانت تضج بالجمال..وقد بدا البحر خلفهم يصطخب بموج فتى يرتفع كالجبال..ثم نظر إليهم في جلستهم الميتة..وخيل إليه أنهم قصروا قليلا..ليس لأنهم جلوس...ولكن...كأنهم انضغطوا إلى أسفل..ونظر إلى أرجلهم ..فهاله انتفاخها وتورمها كأنها لا تنتمي إلى الأبدان...
كان الصمت مطبقا.. وكلٌ سماعته على أذنه..غائب عما حوله....
.وهو يبحر فى الأقدام المتورمه..يبحر..ويرى الشرايين تمد جذورها على الأرض وأرجل الطاولات والكراسي...وتغوص في أرضية المكان...لتصبح جزءً من تكوينه..وتمنع أصحابها من مجرد الحركه...
أيقظه صوت سيارة عند البوابه الخارجيه..هرع باتجاهها كمن يبحث عن جواب...
قال له موزع الطعام الجاهز..أن أصحاب البيت يطلبون الطعام بالاتصال المباشر عن طريق الشبكه...ويتركون له الباب مفتوحا.!..فكر...أيُّ انتهاك!
بدا كل شىء جزءً صغيرا من كابوس فرد ذراعيه بالتدريج..وراح يسأل نفسه ما إذا غاب طويلا وإلى هذه الدرجه...أوشك أن يسأل الموزع المستعجل عن عنوان العائلة التي يبحث عنها حين دخل هذا البيت بالصدفه،....لكن الرجل غاب يؤدي عملا دؤوبا يتطلب سرعة وخفه...
وجد نفسه وحيدا فى الشارع من جديد...لم يكن الوقت ليلا بعد..ربما السادسة والنصف...لكن كآبة معتمه زرقاء كانت تلف الهواء الذي يرفرف بين المنازل..
سار قليلا على غير هدى،و في خط مستقيم...وتفاجأ بأن لا أطفال يلعبون..ولا أحد يمشي على قدميه..لا أصوات حياة غير نباح كلاب بعيده.. ولا حركة غير..سيارات مسرعة تشق الهواء بين حين وآخر الى وجهات مجهولة.. ومصائر في علم الغيب...
سينظر العائد، إلى صف البيوت التي تغادره أو يغادرها مشيا على الأقدام...وسينتبه إلى أن كل البيوت. في الحي الشرقي....تكاد تغو ص في أوراق الأشجار الميته..
.فيما تستغيث أغصان الأشجار الجرداء من خلف الأسوار.. فى كل الاتجاهات... بيأس مرير...
الامارات

0 التعليقات
إرسال تعليق