"حرير" عنوان جميل وخادع في الآن نفسه. فعلى عكس ما تحيل عليه مادة الحرير من نعومة، تقوم المجموعة بتكسير أفق انتظار القارئ وتحويل النعومة إلى تشققات وندوب، والليونة إلى وخز الشوك والإبر، والمتعة الجنسية إلى لذة منكسرة جارحة:"والحريرحتى الحريرجارحيا مريم" (ص.41).
تقدم المجموعة نفسها إلى القارئ كنسيج أوّلُه خيط وآخره خيط. أوّل الخيط رجل وآخر الخيط امرأة. آدم وحواء وإشكالية الخلق والخطيئة وطردهما من الجنة هو ما يجعل قصائد المجموعة كلها تنبض بحياة تجمع بين الأسطوري والواقعي وتوظف الأول من أجل فهم وإدانة وإعادة صياغة الثاني، وحين تحضر وجوه أخرى بينهما، فهي لا تني تخرج عن ثنائية الخلق هذه حتى أن أحدها يحمل من دون لف ولا دوران اسم "آدم". يتعلق الأمر هنا بـ"آدم" الابن رمزاً لاستمرارية الأب:"هو ابنيوأنا ابن التي خبَّأتْ في قلبيدودة القز" (ص.23).
إلى جانب الابن تحضر صورة الأم التي تكاد تغطي عليها صورة الزوجة أو الحبيبة وتتوزع باقي الوجوه بين عاشقين يتشاجران وامرأة وحيدة وأخرى محرومة جنسياً... الصراع بين الذكر والأنثى، الرجل والمرأة، حاضر بقوة، لكنّ النقيضين يلتقيان في عريهما كأصل واحد ومشترك للخطيئة، فيعيشان فوق "حرير" خادع أنواعاً من العذاب. لذلك جاء الـ"حرير" ـ كما تكشف عنه عناوين الفصول ـ متعدداً ومتنوع اللمسات والألوان: "حرير جارح"، "حرير ملوَّن"، "حرير محرَّم"، "حرير خامّ"، "حرير صافٍ". ثمة دائماً ما ينغص على العاشقين لحظتهما الحريرية ويحوّلها إلى وهم، بما في ذلك الشِّعر:"غريب أمرك أيها الشعركلما اعتصمت بك وأنا معهاغافلتنيوانسللت من بيننامثل لص" (ص. 114).
في نصوص المجموعة أجواء تحتفي بالمرأة جسداً وروحاً وقيمة جمالية. ولعل الاحتفاء ذاك هو ما جعل المرأة سيدة المواقف والحالات كلها، يعبّر عن ذلك مثلاً شكوى الشاعر من امرأة إلى امرأة: "أفسدتني الأجنبية يا أم". (ص.18). هذا السطر الشعري الذي يبدأ وينتهي به نص "شالان لأمي" كاف بشحنته الدلالية المختزلة إلى تنبيه القارئ منذ بداية المجموعة إلى أن النصوص اللاحقة لن تكون حريرية مثلما يتوقع. إن الشقاء والمعاناة الإنسانية وقيم الجمال والحب والعلاقات الإنسانية تخرج رويداً رويداً من ثنايا النصوص لتتسع بذلك دائرة التناقضات:"نحن أولاد حرام يا أم" (ص. 22).
"رجل في الطابق العلويوامرأة في الطابق السفلييا لقلبك أيها السقفكيف تتحمَّل أن تكونبكل هذه القسوة ؟" (ص.23).
"ابقي حتى الليلكي تعودي إلى البيتفي أمان" (ص. 140).
إن المتفحص لنصوص المجموعة ينتهي، ولا شك، إلى أن الشاعر قد كتب نصوصه هذه وهو ينسج مثل "صانع الحرير والغزّال" العلاقة العميقة بين الشعر والأسطورة. يتعلق الأمر هنا بنبش الشاعر في النصوص المقدسة وبالتحديد في قصة آدم وحواء، مما يجعل الدخول إلى عالمه الشعري يستلزم الإلمام ببعض مكونات الأسطورة والنصوص المقدسة. ليس عبثاً أن تكون فاتحة الديوان آية قرآنية من سورة يوسف "فذلكنَّ الذي لمتنَّني فيه" (الآية 32). كل ما سيأتي يستقي مشروعيته الدلالية والشعرية من محور العلاقة بين الرجل والمرأة دون أن تكون هذه العلاقة منحصرة على ما هو جنسي كما قد يبدو من قراءة سطحية للديوان. إن المرأة هنا حاضرة في لوحات متعددة ومختلفة إحداها عن الأخرى. إنها حالات إنسانية لا تخرج عن استدراج الغريزي فينا مشتبكاً بالنفسي والاجتماعي والبسيط والمعقد. الشقاء الجنسي حاضر بقوة، لكنه ليس مجاناً، لأن النصوص تحمل إدانة للوضعيات الاجتماعية التي تعيشها المرأة في المجتمعات العربية:"علمتها الوحدةوالأيامالتي تخطو فوق ترابها بلا أثركيف تربِّي وجعها الساكن بين وركيهاكذنب لا يغفره الله" (ص 90).
تتخلل هذه الشبكة الدلالية المعقدة بين الرجل والمرأة علاقات أسسها الشاعر وفق إحالات على نصوص أخرى. سواء بشكل مباشر كما يتبين من الآية التي تشكل مدخل الديوان، أو بطريقة غير مباشرة كما تدل على ذلك التراكيب اللغوية والمفردات المستقاة بعناية من النصوص المقدسة. الأمثلة على ذلك متعددة، منها ما يحفل به نص "أبيض" من صيغ اسم الفاعل المتوالية التي تذكر مجتمعة وشكليا للوهلة الأولى بأسماء الله الحسنى وما توحي به من كمال، لكنها تكشف في الحقيقة عن التناقضات العميقة التي تسم الرجل وتجعل منه كائناً ضعيفاً يحتاج بالضرورة إلى امرأة تدثّره كأمّ:(الخفيف..، الكتوم..، السكير..، الضاحك..، العابر..، الحائك..، المغفل..، العطوف..، المغازل..، الجلف..، العنيد..، الكسول..، الأب..، الطفل..، الرؤوف..، الآمر..، المتردد..، الأعمى..، الأصم..، الناحل..، الطويل..، الأكول..، الهادئ..، الراكض..، الغريب..،...ص. 70ـ 73). ومن أمثلة التناص أيضاً إحالته على قصة يوسف مع إخوته:" نحنُ أولادُ حرامٍيا أمُّجززْنا صوفَهُوعرَّيناه في البردِمرَّغنا وجهَهُ في التُّرابِكي نخفي جماله عن حبيباتناوتركناهُ يهيمُ وحيداً في البرِّيَّةِموَّهْنا الطَّريقَ – حتَّى – إلى جثَّتِهكي تلتهمَهَا ذئابُ الخلاءِ..." (ص. 22)
أو التعبير عن خيبة عاشقين من خلال استحضار المعجم القرآني عن الجنة:" يومٌ بكاملهِنتكاسلُ في سريرِنا عريانينِها هيالجنَّةُ التي طُردنا منهالا أنهارَ مُسْكرة تجري من تحتِ أقدامِناولا نمارقَ مصفوفةٍلا حورَ عينٍ كي تغاريولا ولدانٍ مخلَّدونَ كي يفورَ دميليس إلابابٍ وحيدٍلا يُدخِلُ أحداًسوانا..." (ص. 48 ـ 49).
العلاقات التناصية ليست هنا قيمة شعرية جمالية فحسب، بل هي تأثيث للحوار بين نص الشاعر والنصوص المقدسة من خلال اختراقه لها ووضعها موضع التساؤل الإنساني البسيط ، والطفولي أحياناً. وبنفس القدر من تكسير الشاعر للمقدس فينا، يقوم أيضا بتكسير ما يكاد يكون بديهياً في الوعي الجمعي المتعارف عليه في أغلب الثقافات جمالياً وجنسياً. هكذا ونحن نقرأ ما يلي يسقط مقياس الجمال الأنثوي المتعارف عليه بخصوص بطن المرأة ويصير شيئاً لا علاقة له بالدم واللحم، بل جمالاً داخلياً وروحياً أصله هذا الذي نسميه الأمومة:"نعمأنت جميلةٌفقط لأن بطنَكِ لم تعد صحناً مدوَّراًكما كانت قبل أن تحملطفلي الوحيدْ.". (151).
إن مجموعة "عماد فؤاد" ترقى بقصيدة النثر العربية المعاصرة إلى جمالية وشعرية نادرتين، لأنها، بكل بساطة، لا تكتفي بمظاهر المحسوس والتقاط الجزئي في مادته الخام، بل تشتغل على القصيدة بعمق معرفي ودراية وإلمام بالتراث العربي شعراً ونثراً وتوظيفه جمالياً ودلالياً بطريقة أصيلة. وقارئ "حرير" يخرج، ولا شك، بانطباع مفاده أن الشعر الحقيقي هو مثل الحرير الذي "لا يحتاج إلى دانتيلا مخرّمة ليغوينا النظر" (ص.133).
محمد غرافي
شاعر وباحث مغربي مقيم في فرنسا
القدس العربي

0 التعليقات
إرسال تعليق