عبد الرزاق الربيعي
عندما وصفه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بأنه "راهب متبتل في حب اليمن والثورة العربية"، وضع إصبعه على العصب الحساس في شخصية الدكتور عبد العزيز المقالح الذي توج إنجازاته الشعرية بفوزه بجائزة سلطان العويس في مجال الشعر بدورتها الأخيرة ..فهو راهب في هدوئه.. لا تكاد تسمع صوته، عندما يتكلم يهمس ولا يتفوه بأكثر من جملتين قصيرتين الا اذا تكلم في الثقاف
وهو راهب في بساطته وتواضعه.

عندما تدخل مجلسه الأدبي الاسبوعي الذي يضم كبار الشعراء والنقاد وأساتذة الجامعة فإنه يستقبلك بإبتسامة لطيفة وتحية من يده التي تحمل لك غصن" قات" رغم انه نادرا ما يمضغ "القات" واذا ما مضغه، فإنه يكتفي بورقة واحدة أو ورقتين من باب المجاملة الإجتماعية...

يصغي الى الجميع صغارا وكبارا ويوجه ملاحظاته بأدب جم.

أثناء إقامتي في صنعاء طلبت من طلابي في الدراسة الإعدادية بحوثا عن شعراء عرب فإختار طالبان منهم (المقالح) , طلبا مني مساعدتهما بكيفية الوصول اليه وبعد تردد أرشدتهما الى مقر تواجده الرسمي اليومي في مركز الدراسات والبحوث، له مكتبان آخران يمضي بهما يوميا ساعات وهما مكتبه في جامعة صنعاء القديم وآخر في الجديد , عندما كان رئيسا للجامعة وبقية يومه كان يمضيه في مركز الدراسات والبحوث اليمني حيث يشغل موقع مديرا له وهو مكان قريب الى نفسه ويستقبل به الضيوف وهم كثر ، فذهبا اليه وحين عادا تكلما لي وأنا مندهش عن إستقباله لهما احسن استقبال حيث قادهما الى مكتبة المركز وأرشدهما الى المصادر، وبعد ذلك وجها له أسئلة تتعلق بتجربته فأجاب على جميع الأسئلة ثم طلب منهما أن يطلع على إجاباته ففعلا فقام بتنقيحها .

هذا هو عبدالعزيز المقالح الشاعر الكبير والاكاديمي والناقد الذي أخذ من الشخصية اليمنية بساطتها وعمقها التاريخي ومن الشخصية العربية كرمها ورفعتها ومن الشخصية المعاصرة حضارتها ومن شخصية الشاعر شفافيته وحساسيته.

والمقالح كما يقول الشاعر إبراهيم الجرادي –" مسلكية ثقافية عربية ، تنفرد في سماتها وتتيح للتكريم مقاما، يكرر ثناءاته للحرف المتأصل، في سلوك ثقافي وانساني، لا يرضي نفسه على مايبدو، ولا يبلغ قيمة لديه، بانفتاحه المشروع على أفقه العربي، وهذا ما تبديه ممارسته الإبداعية وما يشترطه طموحه الثقافي الكبير في رفض النزاعات الاقليمية التي تنمو في إطار الحواجز الجغرافية وفي استكانة بعض المثقفين العرب، ولم يكتف المقالح شاعرا وباحثا واستاذا بتوصيل شجون اليمن الثقافية الى مواقعها العربية بل ساهم ويساهم بجهد مضن واضح ، ومن خلال كتبه ونشاطه الدائم بالتعريف بالأدب العربي في مواقعه الجغرافية المختلفة، ويندر في حياتنا الأدبية والإجتماعية – يواصل الجرادي في كتابه "حداثة متوازنة" – أن نعثر على أديب ذي تأثير في بيئته يعادل تأثير عبد العزيز المقالح في البيئة اليمنية، فهو شخصية ذات مكانة اجتماعية كبيرة اكتسبها نتيجة إخلاصه لمجتمعه وتوظيفه وعيه وانتاجه لرفعة شأن هذا المجتمع.

المقالح الذي ولد عام 1937 بدأ حياته العملية مدرسا يتذكر اليمنيون ان البيان الاول لثورة 26 سبتمر في عام 1962، أذيع بصوت عبد العزيز المقالح... الثورة التي كتب لها وساهم في تفجيرها...

وفي عام 1964، عين مستشارا لوزارة التربية والتعليم، ثم سكرتيرا لمجلس الوزارء ومندوبا بالنيابة للجامعة العربية اليمنية بجامعة الدول العربية في القاهرة . وفي القاهرة واصل تعليمه العالي بعد حرب حزيران عام 1967، ونال اجازة الليسانس من جامعة القاهرة والمجاستير والدكتوراة من جامعة عين شمس.

ورغم ابتسامته الرقيقة الا ان المقربين الى المقالح يعرفون جيدا انه شخصية حزينة كثيرة التأمل وربما يعود هذا الحزن الدفين في أعماقه الى سنوات الطفولة والظلم الإجتماعي الذي عاشه الشعب اليمني أيام حكم الإمام . يقول المقالح "صور المعاناة في حياتي بلا حدود، كل يوم من زمن الطفولة سواء في القرية او المدينة يشكل سلسلة من صور الحرمان الفاجع والخوف من المجهول، فالاشجان تبعثها الذكريات في هذه المرحلة بكل ابعادها المفجعة بالنسبة للفرد وبالنسبة لليمن كشعب.. فالحزن قد يداهمني وانا ماش في الطريق ، وقد يتسلل ليلا ، قد يحاصرني وأنا أرى أطفالا يسيرون بالملابس الممزقة ، ويضعون أقدامهم الحافية على الطريق في وقدة الشمس.... الحزن رفيق دائم وصديق حميم، ومهماز لا بد منه لكي نواصل الحياة بقدر من النقاء".

دائما يصفق للجديد وقد دعا الى مفهوم حداثوي أطلق عليه "الأجد"،ويعتبر انحيازه للجديد "تهمة محببة الى نفسه".

له موقف صلب من شعر المديح ويعتبر شعراء المديح "شعراء الإرتزاق".

ورغم محبة الناس له كواحد من الشعراء الوطنيين والذين احدثوا نقلة نوعية في الشعر اليمني الحديث ونقلة حضارية في الأوساط الجامعية

الا إنني فوجئت عندما رأيته يسير في "صنعاء" وسط حرس مدجج بالسلاح وعندما استفسرت عن ذلك قيل لي: وقاية لقلب الشاعر من الخناجر التي لمعت في الظلام وحاولت جرح "قصر الشوق" و"خان الخليلي"... وها هي نفسها تتصفح قصيدة قديمة كتبها المقالح، عام 1975، لتعثر على بيت تسيء تفسيره من أجل أن تجد مبررا لها تمكنها من حياة هذا الشاعر!...

وحين سألته عن ذلك وصف لي "المقالح" تلك اللحظات التي كان يسمع فيها وهو جالس في منزله أصوات تنطلق لتشق السماء تطالب بإطفاء صوت الشاعر،و كان مندهشا مما يسمع... فهو بعيد كل البعد مما أتهم به وما دار في رؤسهم وهو لم يجرح نملة في حياته.. فلماذا يطالبون برأسه وهو الشاعر الذي تغنى بالجمال بلغة صوفية , في مجموعته (ابجدية الروح) يقول المقالح :

لأرض الروح اكتب ماء اشعاري

ولله الذي بسمائه وجلاله ،

يحتل وجداني وافكاري

وللاطفال

للمرضى

لكل مسافر في حين الايمان

.............................

تشرق في مرايا قلبه

أسرار من سواه من ماء وفخار"

مؤكدا ما قاله حجازي عن الراهب المتبتل في حب اليمن... عن عبد العزيز المقالح.


عن دنيا الوطن

0 التعليقات

إرسال تعليق