بيتٌ على البحر، في الجنوب الشرقي من 'البلبونيز'. بيتٌ بحرٌ تصفِّرُ فيه رياحُ الوجع الغامر، ومويجات التعب الوجودي.. بيتٌ باسمه ورسمه سيقترن بالشاعر الهائل الجموحِ: يانيس ريتسوس.. نقطة الضوء الوسيعة في شعرية العالم.. وواحدٌ من الكبار الذين كتبوا فامتدّ النهار دفوقاً على جهات الأرض.. وكان جديراً ببلاده.. التي منحها القلب وزهرة الروح، وكتب عنها ولها متوغّلاً في أساطيرها وحكايات الإرث المجيد، لينسج مقولته الشعرية المستقبلية باقتدار العارف.. وهو يتكئ على ماضٍ طافحٍ بالوعي الأتم وفلسفة مؤصلةٍ وتاريخ يضفضفُ بالرؤى وإيقاع الحياة الموّار انتباهاً وصُداحاً جامعاً.

وبعد أن طوّقه المرض النهّاب وعصف بأسرته ناب الألم الكابي، خرج من دوائر الفجيعة قابضاً على جمرة الحلم والأمل وإرادة المواجهة ليعبر الحياة بخطى الواثق والمكتشف العنيد. ويستند إلى صخرة الفن لترميم خرائبه الجوانية ومتهدّم الداخل، ويتعلّم الرسم وكتابة الموسيقى والعزف على البيانو.. إذ هو خيط اللحن السحري الذي يهندس الروح ويُعلي دوزانها إلى مرقى التوازن. وتعبره القصيدة منذ الثامنة أشعاراً يردّدها القلب غيباً. ليصير الطفل مشبعاً بطقوس روحية باذخة تكاتفه لمنازلة فراديس الخراب والطفولة الجريحة المنهوبة في عالمٍ خشنٍ وأرضٍ رانخةٍ بالنحاس والدم والدموع وصرخات الرضّع ونحيب الشتول.
ومن أُتون اليأس يخلّق ريتسوس الحياة ودرغلات الفرح وسلّمة الغناء فتشقّ الخضرة عدمية اليباس، فيخضرّ السرابُ بحكمة طالعة من شقوق التراجيديا، التي تصفحُ إذ تجمحُ، وتجرحُ إذ تفرحُ.
وجد في انضمامه للحزب الشيوعي مساحة لمواجهة القمع وفضح سياقاته، دفاعاً عن الحرية وأسباب الحياة.. ويكون السجن فضاءً لافحاً لإعلاء التحدّي فيكتبُ: 'بموتي أُكملُ أشعاري'. رافضاً التوبة لسجّانيه والاعتذار عمّا فعل.
ويصلّبُ الطفل الذي فيه، ويواصل الطائر غريده ليملأ الكون، أطلقت مرثية 'ابيتافيوس'، ترتيلة للحسرة والفقد فصارت المرثية النشيد الوطني غير الرسمي - لليسار اليوناني على إيقاع ثيودراكيس.
عبر سيرته الشعرية الناجزة انحاز لليومي وللقصيدة اللقطة، واستطاع من خلال كاميرا المشاهدة الشاهدة والشهيدة أن ينفذ من الواقع إلى الخيال.. ومن المرئي إلى اللامرئي.. وهي مهارة تخصُّ ريتسوس.. وتلك لعبته الأثيرة الأجمل.
اعتمد السخرية المفارقة لتخفيف عبء الألم، ليكون الصبرُ والعناد عصاه الأصلب ونايه الأصعب والأعتى.
التأمل في اللحظة والنفاذ لجوهرها كان هاجس ريتسوس، وكلّما حدّق في الموت وأعماق العدم وجد الحياة حية تسعى من غير سوء، شعرية اليومي والتفاصيل كانت حمولة ريتسوس الأغنى.. في دفاعه عن حريته الفردية وحرية الجماعة والشعوب المقهورة لرفع المظلمة عن الضعفاء والفقراء، ورفض الكولونياليات وأدوات الإلغاء والمحو الكوني.
استطاع ريتسوس أن يؤسّس لمقولة صلبة تنهض على الحبّ والوفاء لقيم الجمال وأفراح الربيع وأجراس ينابيع الجبال التي تقهر الموت وتبدِّد أسدافَ العتمة الكاوية. وتجعل الحياة أقل إيلاماً ومرارة.. أدرك ريتسوس أن التفاؤل مهنة الشعراء الأجلُّ والأتم. التفاؤل الراسخ الذي منح الشاعر التراجيدي احتمال الصعوبات وتجاوزها بعرفانية إشراقية صوفية.. فنرى أشياءه متكلّمة بليغة.. حجارة تتنفّس الضوء وأشجارٌ كليمة ناطقة، وجبال تسير على حفافي الحلم وظلّها على الماء.
في مئوية ريتسوس ونحن في بيت المنشد الجماعي للرواية الفلسطينية وقصة وجع البلاد الشاعر محمود درويش نستدعي عناق شعريتين كونيتين بين درويش وريتسوس اللذين خطّا المدوّنة الشعرية الأبلغ تفكيكاً للظلم والظلموت الرابخ على صدر الشعب.. وتوسيعاً لأفق الحرية ومدّاً لمداها وأمدها المعافى وانتصاراً لقوة الحقّ والحقيقية.
أيهذا الشاعر التراجيدي اليوناني هاهو بيت صنوك درويش نفتح شبابيكه لقصائدك الفريدة، مؤكدين حضور غيابك لتبقى القصيدة على قيد الحلم والحرية.

رئيس بيت الشعر الفلسطيني

0 التعليقات

إرسال تعليق