مفردات منثورة كياسمين على ماء، غنية كعنب الدوالي، متكاثرة، لانهائية العدد والطعم مثل احتمالات رمانة مغلقة، تعرّش على جدران الصمت ، هناك نمت وحيدة مفردات الحنين !


تحكي مفاتيح الدور العتيقة، مسّاكات الحديد الثقيلة وموسيقى طَرقات يد الغرباء، ترن في الوعي، حتى حواف الوعي، على باب من خشب وروح دائخة من قهر التكرار، وغباء الألحان المستعادة. تحكي نتف من صور اصّفرت الثياب على مرتديها وهم يمرون بأزمنة عابرة، أن هذه الحقائب من جلد وتنك، المتخومة بأصحابها وقياسات خصورهم المطاطية المتعاظمة بقوة مرور الوقت، تحكي أنها قد تركت الوقت، كي الوقت! تُركت هناك وراء مجهول هو الظل البارد، لحمّال اعتباطي قد يهمه، أو لا يهمه أن كل ساكني منزل البازلت هذا تحولوا إلى ذكرى.

انزلقوا باعتباط نحو الغياب، دون أن يخبروا أحداً. ستائر لُّمت على عجل، حَفظت دون تميز روائح أجساد قاطني الغرف الرطبة، خُبّئت بخجل في أقمطة لم تكن لأطفال البيت فقط، بل لكل من أعتقد أن أَسر الروائح في قطع أقمشة ممزقة، يولّد سحر الأشخاص ويحيي قوة الاستحضار، يطلق جنيات محشوة في حجب لاستعادة وجوه الأحبة في فسحة الأمانز

مررت أخيرا ببيت احتلني، قريبا من دوارة البيت العتيق، أمام سكنى أحلام مستعادة، ظلت تستلقي سيقان زهور مهجورة دون أمهاتها، وأشجار تسامقت بشرود، ارتقت نحو السماء دون يقين أن الله لا زال يهتم بمخلوقاته التي وهبها للحياة.

لا أريد العودة إلى مكان مؤرق يوّلد انبعاثات الأسى مثل غاز سام.

مات من ولدني.. منذ زمن غادر ولم يستأذن أحداً. وعند كل ذكرى، من اشتعال للذكرى في المخيلة، أحلف أني لن أرثيه فقد وعدت نفسي ألا أفعل، لن أفتقده فقد وعدت نفسي ألا أفعل.. لن أزور منزله الحجري، لن أصعد درجاً مشاه نحو وجه الله، ولن أدوس عتبات بيوت زارها، لن أقبل شفاه أحبة عرفوه، ولاحقوا شبهاً خفيا بيننا، لن أفعل ولن أفعل.

ابنة الحاضر أنا، لا آباء لي..

لكني مثل أفيونجي ساقط، أعود لارتكابات فاضحة، أعود للبيت القديم ومفرداته المخدّرة، واستسلم بخضوع مدمن لجرعات الحنين! أقبّل من أقبّل، أضحك مثل مسطول حتى حدود الغيبوبة، ألعق وجوه الأحباب مثل كلب شره، أشم رائحة العجين المخمّر على تنور يخبز الحب و"قرّوصة مقمّرة " يقدمنها عمات كثيرات لابنة أبيها، أسرق التفاح من شجرات ملاصقة لبستاننا، بستان التفاح، لأن طعم السرقة أزكى.. "أغيّب" مفردات المكان ، أحفظها كما تحفظ القصائد للاستحضار عند الطلب، أتدلى من جرس الكنيسة، أعامل حبله الغليظ كأرجوحة مرتجلة، يحملنا مع رنينه صعودا صعودا.. ونضحك في جنّاز العجوز الميت حديثاّ، ويلاحقنا الأهالي بالعتب والنهر وبالضرب، وشتائم تطال "المحاريق ولاد المحاريق" أجداد الأجداد، ومن طمّسنا في جرن المعمودية..

خائنة أنا ، لا احب الحنين، لكن في أفعال العودة ارتكابات لا تغتفر، بغواية الشر نتلمس حدود شهوتنا لها، بالأكف نمر على كل منعرج حنين كشحاذ أعمى نسي طريق القلب، نعي الخطيئة المتأرجحة في التوائاتها الأفعوانية، يقيننا النافي لخطورة الفعل، يعدو بنا إيغالاً نحو العميق فينا، نغفو في الذكرى، نستكين هناك قليلا، نستكين في ما نعرف، تطيح بنا أفعال ناقصةً

"كانَ" وكانوا يا حبيبي..

يسرّب خفقان القلب وتسارع ارتعاشاته كل الأسى، هناك بالقرب من ليمونة الدار، فوق عش وضع في الربيع وأهدر في تشارين الرحيل، غادرت كل السنونوات وبقي الريش وبيضة مجهضة..

قيل لا تُقتلوا بالحنين.. قيل لا تَقتلوا النفس التي حرّم الله قتلها إلا.. نموت، تُسحل جثث خيالاتنا، تتجمد افتقاداً لدفء بيوتات تشّربت حجارتها ضجيج أجسادنا.. ننفى، ننبذ، نهجّر ولا نتوب..

لعينٌ توقنا للتكرار المدوخ، ينتهكك، يغزوك مثل اللذة، يبعثرك مثل ورود الدفلى على صفحة من بياض كامل، تجف، ترى نتفك واضحة ومنفصلة، متشظية مثل كريستال تحت مطرقة حداد. نمر بصحبة أنفسنا فوق الأمكنة "أمكنتنا"، نحمّلها فائض حنين، نغرقها، نثقلها، بقهر نفرض ذاكرتنا عليها.

رأيت في زيارتي لمكاني الأول طفلة من عمري الماضي، رأيُتني!!

تلعب كما ألعب، أو لعبتُ في دار الكنيسة الحجري، تقتفي أثر عصفور نصبت له فخاً، كانت مثلي، كانت أنا.. تحمل شعراً أشقراً، وعيون والدها الملونة بيد ربانية تعرّف الخصب.. نظرتُ إليها، أنا الكبيرة.. العمة التي تحكي كالكبار بعنجهية وملل الكبار.. تحاورنا، مسسّتُ وجهها.. سألت

" من بطاطا أم من بندورة خدودك؟؟" بلا مبالاة أجابت: مين بيّك.. مين إنتِ؟؟

خرستُ، فلم لم أكن أحداً..

قلت مراراً لا أحب الحنين.. ولا تكراراته الممجوجة، المقيتة..

صرخ صوت فيّ، في تاريخ وعي، نازفٌ ذاك الصدى، وصرخات كل هذه الجثث المتروكة من أقصوصات، واقتراحات ألون، وطعوم، ورشفات من ضوء، وروائح مخمرة في أقبية النبيذ الخاوية إلا من الفقد، تركتني الذكريات دون أوصال! ممزقة بقيتُ أنظر في فراغ وحشي.

لا أحب الحنين.. صرخ فيّ صوت من بعيد، من زمن عتيق أتى ليخبرني درس الحكمة الأخير:

"أنت يا بنت! لا تنسِ أن تنسِ" وصية تركها لكِ كل الذين مروا ومضوا..

أكرههم أهلي، ألعنهم، ألوم الدنيا، أكره العمات، يمسحن دموع الذكرى على عجل، يتحسرن، يشرقن بالآهات، يهمسن

"عيني.. هي بنت ابراهيم!!" مفردات مكررة ضربت أوتاراً موجعة دون أن تؤلف موسيقى تسمع!

احتفي بالخيانة يا بنت، بانتهاك الذاكرة، بقبرها تحت بلاط ثقيل، احتفي بالنكران.

لا أحب الحنين.. فالذي مضى قد مضى، والفرح إن كان خرافة فهو خرافة صنعت من مخيلة الأطفال، والسعادة إن وجدت مرة، فهي مرةُ واحدة والسلام، وإكسير فرحها المنعش رشفه الكل.

السعادة مثل الخيانة، لحظة تفر من أصابعنا، لا جيوب في حواشيها لتخبئ الذكريات، لكن يلملم المحرومين نتفها، يعبئونها في" شوالات" الحنين، ثقيلة، مكررة، ممجوجة من قدرة البشر على الاستعادة وامتصاص سُكر التجارب مرة بعد مرة..

السعادة مثلي خائنة، لحظوية، بنت وقتها، بنت نبض حار، مثلي لا تحب الحنين، فهو عتيق، وهي صممت لتبقى، طازجة، لم تخلق لتختمر، لم تصنع لتنئ بعيداً في الحنايا، وتخبئ لتطالها رطوبة البعاد في منابع الذاكرة.

السعادة مثلي خائنة، تعيش لحظتها وتمضي،عبر قطار يسير دوماَ نحو الجديد في محطات جديدة، وهكذا حداثة تتبعها حداثة، هكذا يجب أن تتكاثر اللحظات عند الفرح، أن تحبل بخصوبة غريبة، وتبقى خضراء، تلم ألواناً كباقة زهر، لم يطأها الخريف بعد..

أنا الخائنة، لا أحب الحنين..

والسعادة مثلي لا تحبه أيضاً..

كاتبة سورية، دمشق


abeer_esber@yahoo.com


عن كيكا

0 التعليقات

إرسال تعليق