طوال الطريق وأنا لا أرى شيئا تعبر المرئيات وجهي مثل نيازك تتدافع إلى حتفها مكتوف اليدين والحيلة، معصوب العينين والبصيرة مرتهن لغيب لا استطيع له إدراكا،وضائع ضائع، مثل دم مهدور। ما لذي نسيته في ذلك المكان ويذبحني،ما لذي لا استطيع تذكرة وينشب أظافره فى وعيىّ ما لذي يحاول أن يستنزفني رجفة رجفة ، وغيبوبة بعد أخرى ؟أتوقف। اعود لنفس المكان من جديد للمرة الخامسة أعود، والرجل الذي هو صديقي منذ بدأت البشرية في اتخاذ الأصحاب، محتار في أمري ، يكاد يبكى على حالي، وأنا أوشك أن انهار أمامه، لا اعلم ما حل بي ، وما إذا كان مسّ قد أصابني،او عبرت برزخا الى الآخرة وعدت ،مضطرب ومشوش،وبائس مثل عاشق مغدور . لا استقر على ارض أكثر مما يتوجب أن انقل قدما أمام الأخرى،بتوتر من لا يعرف أين ستهبط الخطوة التالية كأنني أمشى بين جثث أو هياكل لبشر لا حصر لها،أكاد اسمع أنينها كلما صرّت الأرضية تحت حذائي. ادور فى البيت ، بيت العائلة الكبير، الرطب ، العتيق ،غرفة غرفه،وصاحبي يدور معي وحولي يتعثر بي يكاد من حيرته ونبله لينقذني من ضياعي،يبحث عما لا يرى، وما لا يعرف، مثلى ، ومثله افعل ،بعد ان استولى الآن على كلّى ذلك الشعور العنيف الغامض،المعتم، بأنني قد نسيت شيئا هنا، شيئا كبيرا وهاما، ويدفع لكل هذا الاهتياج ، شيئ، كان الأمور لن تنصلح إن تركته هنا ،أو لم اعثر عليه. * * * ينتحي سمسار العقارات بصاحبي جانبا،يسأله إن كنت بخير لأنني لا أبدو بخير، وهو لا يبحث في الحقيقة عن جواب ولا ليطمئن علىّ، لكنه يريد ان يقفل صفقة بيع البيت،ليتابع حياته كأي بائع متواضع الذكاء، يرغب فى ربح سريع، او كرجل اعمال ماكر ، كما يحب ان يرى نفسه،وكما يرغب ان يراه الآخرون.ضائع في ثوبه لشدة نحوله، وكأن السيجارة التي في يده تدخنه، ولا يدخنها، وعلى مضض. منحنا، بعد حديثه مع صاحبي، ساعة إضافيه،ثم قال كمن يفاجئنا بكرمه:خذا بقية النهار،سأقفل البيت عند المغيب.وغاب . عاود نبضي هدوءه،وبعض طمأنينة تسربت تربت على هلعي الذي بدا واضحا الآن،كمن اكتشف انه مقبل على الموت بعد قليل دون ان يعيش.ورحت أتفحص ظاهر يدي اليمنى التي بدت معروقة أكثر مما ينبغى،وأفكر بحالي الذي لا يستقر على حال.اطمئنني،وانظر إلى صاحبي كأنه غير موجود،أو كأنه جزء منى. جلسنا على الأرض، الأرض الباردة، الخالية من الأثاث، الأثاث الذي مرت عليه الأحزان بتارة مثل سيوف أصيله ، وجاءت بعدها افراح مسحت جراحها بيد من زمرد ، وضحكات من عسجد وعقيق ، ونظرنا الى الجدران، الجدران الرطبة العارية من الصور ،صور بلون بنى باهت متدرج من بقع الشاي الى القهوه، لجدي في ثوب فضفاض و "غترة" ملفوفة على رأسه بلا عقال يحمل أبى الذي يعتمر طاقية مطرزه وقد ظهرت ساقاه النحيلان من ثوبه القصير، وعلى يمينهما طاولة من الخشب الهندي المحفور يستأثر بها مذياع ضخم تستريح فوقه مزهرية نحاسيه ممتلئة حد التزاحم بورود من ورق الكريشة المقصوص بعنايه، صورة جدتي التى رسمها أخي من الذاكرة عندما كان فى الجيش،ولا تشبهها في شيء،أمي في شبابها وتموجات شعرها الفاحم عندما كان تمويج الشعر سائدا ومرغوبا، صورة إبني البكر احمله بين يدي يوم مولده وابتسامة حائرة تشرق على وجهي أكاد أبكى، صورتي استلم شهادة تقدير في مسابقة التهجئة فى الصف الرابع، ولوحات أخرى أحفظ مواقعها من الجدران مثل خطوط يدي المعروقة ربما أكثر. جلنا ببصرنا على النوافذ الخشبية ، وخلفها أشجار "الشريش" و"الغاف" تقف ببسالة الجنود، النوافذ دون ستائرها الرصينة الألوان، التى عبثت بها نسائم الحياة وأعاصيرها ، رطوبة الليالي وصهد الأيام ولم تتغير ،وخزائن الحيطان الخالية من الثياب والأحذية وعلب الأسرار وحقائب السفر والمدرسة،الحمامات دون مناشفها المتماثلة، وصابونها المعطر وأشياءها الصغيرة التي تبعثرها النساء هنا وهناك ، ودون أن تكون لها استعمالات أو فوائد واضحه، وكنت اضطرب كلما تذكرت شيئا وأئن بصوت خافت وصاحبي خائف علىّ من استرسالي المرير فى البحث عن شيء لا أعرفه فى بيت فارغ تماما إلا من أنفاسنا نحن الاثنين ورائحة غربية ظلت تحوم حولنا كأصابع خفية مجهده.قمت ولحق بي صاحبي وقد بدأ يتوتر ويبسمل، صاحبي الذي أعوّل عليه وائتمنه على حياتي وموتي، بدا يبسمل والرائحة تنتشر ،الوقت يدخل في الوقت والشمس لا ترغب في معاندة مصيرها أكثر ،تكاد تودعنا في ضياعنا المزري، بحزم من ضوء شحيح عبر انفراجات صغيرة لضلف النوافذ الأثرية،تسبح فيها ذرّات متباعدة من الغبار وكائنات دقيقة كالهباء،فيما راحت الرائحة ترتفع وتغمر الفراغ. اقرب ما تكون الى شئ قديم مطويّ منذ دهور ،نشر فجأة ففاحت رائحته واحتلت المكان. * * * لم يعد هنالك ما يقترب حتى من الأمل في سعينا الغريب إلى المجهول،عتمة خفيفة بدأت تنشر في الخارج والداخل وداخل الداخل،ونحن نوشك أن نعلن حمقنا دون كلمات مناسبة، فقط ننتظر الرجل النحيف ذو السيجارة التي تدخنه لنسلمه المفتاح ونمضى الى حيث لا يتمنى أن يرانا مادام حيا. وكأنى لمحت طيفا يعبر حزمة الضوء المغادرة خلف صاحبي الذي يواجهني كمرآة باهته،جفلت، أشرت بيدي التي لم ترتفع أعلى من شبر واحد عن جانبي وسألته إن شعر بشيء خلفه،استدار بغتة هلعا،فلم ير شيئا ولم أر أنا الآخر. بانت على وجهه علامات قلق هائل وهو ينظر في عيني عن قرب ويمسك بذراعي كأنه يكتّفني بقوة وهو يقول: هذا يكفى، الآن نخرج، وأنت اولا، في تلك اللحظة التي كان يمسكني فيها مثل أب بار يشرح لأبنه عواقب اللعب بالكبريت،هبت ريح باردة اصطفقت لها ضلف النوافذ المشرعة، وضلوعنا، فيما انتشر الظلام والرائحة سريعا،وارتفع الدم إلى رأسي كمن يعانى ضغطا مفاجئا على أذنيه وصاحبي ممسك بي ما زال، اشعر بأصابعه مثل الكلاليب تطبق على زندي، لا هو قادر على أن يفلتني ولا أنا بمستطيع أن أخلّص نفسي. ونحن نتلفت ضائعين في غيمة من أثير أو ما يشبهه، نسمع وقع قلوبنا تنبض فى أطراف أصابعنا وقد أخذنا نتراجع صوب جدار الصور القديم بظهورنا، خوفا من أن يفاجئنا المجهول ذو الأنياب، إلى أن التصقنا بالجدار وقد أفلتني صاحبي في نصف المسافة لكنه ظل ممسكا بكفي لا أدرى خوفا علىّ أم على نفسه .ممتنين لصلابة الجدار الذي أسند ظهرينا ،وغمرنا بأبوّة دافئه. جُلنا ببصرنا في العتمة الخفيفة التى تسمح برؤية عليلة ولا تسمح،وتمنينا ان يعود السمسار أكثر من أى شيء آخر، الآن وفى هذه اللحظة، أمنية لا يعدلها حتى اختفاء الجوع والفقر من وجه الأرض ،أو انطفاء الحروب فجأه. لما لم أر شيئا،أقنعت نفسي بأنني دخلت فوهة الهلوسة،وبأنني يجب ان أغادر فورا قبل أن أعبرها إلى نفق الجنون، نظرت إلى صاحبي فهالني ان اراه على غير حكمته وتماسكه،كنت قادرا على رؤية ملامحه كاملة رغم العتمه، وبدا في مكان آخر غير الحائط الذي يسندنا، ويده الباردة في كفى لا تزال ملتصقة كأنها امتداد لجسدي،مغيبا كان،ويبتسم مطمئنا،كأنه والفرح التقيا بلا موعد،تتسع ابتسامته وتظهر أسنانه وتعلو أنفاسه دون كلمه،وعيناه لا تطرفان مصوبتان أماماً كمن لا يرغب أن يفوت لحظة من النظر، أطبقت على زنديه أنا الآن كما فعل معي قبل تراجعنا منذ لحظات، هززته بعنف اردد اسمه ،فأشار بيده وهو لا ينظر الىّ، نظرت حيث أشار وتسمرت في مكاني، لا أنا قادر على إفلات يدي ، ولا هو راغب فى تخليص نفسه. وكأننا في فضاء رهيف من ذرات زرقاء متلاصقة بالكاد، ينتشر فيه دخان رقيق ذو رائحة تمسك بالأرواح، راحت أطياف من الأثير تتحرك حولنا،تمضى إلى شؤونها، فى خفة الفراش ومهارة الطير، فى ملابس من لطف لا تبين ألوانها، بملامح من ماء ملائكي شفاف، وحضور من ألق فاره،كانت تتحرك من مكان الى مكان في الزرقة المحيطة وأحيانا تعبرنا الى غرف أخرى،...ثم॥كأنني رأيت جدي بين الأطياف يتجه الى غرفته،كأنى رأيت جدي، بعزم وسلاسه يمر،تتبعه جدتي ، كأنها جدتي تحمل طفلا كأنه أبى الذي في الصوره،كاد قلبي ينخلع وكف صاحبي تحميني من الانفصال عن الأرض، نظرت الى الزاوية وكان أعمامي يجتمعون على سجادة أعرف تفاصيلها، كأنهم أعمامي على مطارح ووسائد مطرزة بمرايا بحجم الازرار الصغيرة، ورأيت نساء اعرفهن يرحن ويغدون في الفراغ بحماس ومحبه يجلبن ماء ساخنا وملاءات بيضاء الى غرفة أمي، التي كانت تلدني الآن دون مشقه،ورأيتني...رأيتني كأني لا أنتمي إلى ما أنا عليه،فأفلتّ يد صاحبي واتجهت صوبي، مخدر ومسحوب من ناصيتي وكانت الأطياف تبتعد عن دربي॥ تفتح لى الطريق الىّ ،فمددت يدي واحتضنتني بلهفة فغمرتني طمأنينة كالخلاص.وكان العالم ينحسر وانا مغمض العينين، احتضن حيواتي كلها بذكرياتها وأطيافها والعالم ينحسر، ينحسر وقلبى يكاد يغادرني وأكاد ،وحين فتح الباب فجأة فتحت عيني على ضوء ساطع من مصباح السمسار، ولم اعد ار غير الفراغ، وكان العرق يغرقني، او كأنني أسبح فيه وانا احضن نفسي،وصاحبي الذي هو صاحبي مذ بدأت البشرية فى اتخاذ الأصحاب، يبسمل ويحوقل ويقودني الى الباب وأنا مستسلم كيتيم. بعد ثلاثة أيام تماما بلياليها،جاء صاحبي يبحث عنى، وجدني أقف أمام مكان البيت، البيت نفسه الذى بعناه وماطلنا السمسار فى التسليم،وقد تحول الى ساحة من الحجارة والأشجار المجندلة كأوصال مبتوره تنقلها شاحنات عملاقة الى أماكن بعيدة لا أعرف عنها شيئا،وتساويها المداحل والجرافات لتبسط الأرض لشارع جديد،قال صاحبى وهو ينظر فى عيني ويده على كتفى: ..نحن لم نأت هنا بعد ،أن بعت البيت، ولا تلكأنا في التسليم، لا خمس مرات ،لا ثلاث، ولا حتى مرة واحده ، وحتما لم ندخل البيت، ولم نر شيئا، مررنا اليوم صدفة فى طريقنا الى المكتب ولفت نظرنا انهيار الأشجار على هذه الشاكلة فتوقفنا،نحن لم نأت هنا بعد البيع.أبدا. وفيما كنت أهزُّ رأسي موافقا وباستسلام مرير، كنت أشعر كأن المداحل وهى تدك الأرض، تسير على قلبي. فأمد يدي إلى صدري أبحث عنه.. ...ولا ألمس غير الفراغ.


فاطمه الناهض


0 التعليقات

إرسال تعليق