
لا يبدو 'تصوف' أنسي الحـاج على الإطلاق كمذهب ديني أو فلسـفي، بل كتجربة داخليـة غريبـة عن أي نوع من أنواع الاعتقـاد الطائفي. ترفض هذه التجربة أن تستوحي من الدين عناصرها ومفرداتها، مـستمدة ً من اللغـة الشعرية مصدرها وأداتها الرفيعـة الخلاقـة. باستغنـائه عن الوسائط الدينيـة في 'طريقتـه الصوفيـة'، يعوول أنسي الحاج على الشعر في اكتشافه عالم المقدس وحيثياتـه، وكأنه يريد من الفن أن يحل محل الدين في إيصال المرء إلى مبدئه الأول، الله، كما اتفقـت الأديـان التوحيديـة على تسميته.فالفن عند مؤلف 'خواتم'، 'ليس تعليقـاً على موضوع. ليس مواكبة لقضية. ليس منبراً لالتزام سياسي أو مذهبي. ليس شيئاً مضافاً. قد يساعد قضية، قد يتبنى فكراً، ولكن من ضمن معاناة خلاقة تعيد تكوين القضية أو الفكرة وتخترقها لتتعداها إلى ما لم يكن في حسبانها. الفن ليس تعليقـاً، بل هو الخلق. الشعر أكثـر أيضاً'. لا يرى إذاً أنسي الحاج في الفن مجرد مرآة تعكس الواقع أو تمثل أحداثـه ومجرياتـه، بل أداة خلق تتجاوزه متيحـة للفرد تكوين عالم رديف ذي حقائق خارجة عن المألوف. وبعبـارة أخرى، يعتبر الحاج الفن على العموم والشعر على الخصوص وسيلتـي 'كشف' لميتافيزيقيـة تفتح أبواباً للإنسان نحو المطلق. فكمـا يعتقد 'المتصوف الديني' بأن الصوم وطول الصلاة هي طقـوس غايتها التقرب من الحقائق الربـانيـة، يؤمن أنسي الحاج بأن النحت، الرسم، الموسيقى، الرقص، الشعر وغيرهـا من أنواع الخلق الفني هي وسائط جماليـة كفيلـة بتعريف الإنسان لحالات وَجد وانخطـاف، كتلك التي تعتري أهل التصوف عند الوصل. 'يجد الناسك الله في السكون كمـا يجده المرهف في الموسيقى'، يقول الحـاج في خواتمـه التي تبدو للقارئ وكأنها أنشودة طويلـة في مديح الشعر، ذلك الشكل الفني الرفيع الذي أبى لـه مؤلف 'لن' أن يكون ضرباً من لفظيـة تزينيـة رخيصة، جاعلاً منـه ديناميكيـة فرديـة تعمل على تحويل 'أنـا' الشاعر إلى أنا تصاعديـة، تغريها السماء وألغازهـا وتضنيـها الأرض وقوانينهـا. في 'مقدمـة لعلم الجمـال' يُقرّ غـيورغ فريديريـك هيغـل 'بأنه على الفن أن يكون لـه غاية أخرى غير التقليد الشكلي المحض لما هو موجود'، فإذا بأنتونان آرتو في 'المسرح وقرينه' يريد من الفن المسرحي أن يساهم في 'خلق ميتافيزيقيـة للكلام، للحركـة وللتعبير بغية تخليصها من ركودها النفسي والبشري'، وها هو أنسي الحاج يبصر في 'الخلق الفني لقـاء الألوهية والبشرية حيث يفقد كل منهمـا هويتـه الانفصالية ويتحدان في هوية لا تحق للأول من دون جسد الآخر'. والخلق الفني الذي يتيح 'لقاء الألوهيـة والبشرية' ليس شيئاً آخـر بالنسبة للشاعر اللبناني سوى التكـوين الشعري كما يشير به هذا المقطع من 'خواتم': 'أقول باستمرار : الشعر، لاحل إلا به، لا خلاص إلا بطريقـه، وهلم جراً... . أقصد، مثلاً: ما وراء الشعر. الشعر ومـا لا يستطيعه الشعر. الشعر وما لم يشتمل عليـه إطاره. الشعر ومـا يستعلي عليـه الشعر، درجـاً على عادات لم يتمرد عليها (إلا بصورة حيية غير جوهريـة) حتى عتـاة المتمردين. حقـاً سئمت القول : الشعر! الشعر! ... . مهمـا يكن، أيـاً يكن، في أي وقت كان، الشعر هو الباعث، وهو الدرب، وهو الرفيق على الدرب إلى ذاته التي هي، على دوام السير، المزيد فالمزيد منـه؟'. في 'تجربته الجوانيـة' ذات البعد الصوفي، يتجاهل أنسي الحاج الإرث الديني للثقافـة الإسلامسيحية التي تربى في أحضانهـا، رافضاً النهل من إرشاداتهـا ومقرراتها الروحية، كمـا توحي بـه هذه السطور من 'إحضر حالاً': 'لقد سئمنـا التراتيل والأناجيل ومتـّى ومرقس ولوقـا ويوحنـا. وسئمنـا خصوصـاً أعمال الرسل. وبولس. وبطرس. والرؤيـا. وجميع القديسـين'. فتصوف أنسي الحـاج إذاً هو 'تصوف دون الله'، والعبارة هنـا لبول فاليري الذي يؤكـد في 'دفاتره' بأنه 'يتوجب على كل أن يكون له تصوفـه، وأن يحفظه بشيء من الغيرة في قراره، كي لا تشوبه الحماقات اللاهوتيـة والتقاليـد'. وهذا ما حرص عليـه مؤلف 'الرأس المقطوع' في مغامرتـه الروحيـة الخارجة عن النظم الكنسية والفقهيـة، صانعـاً من 'الداخل' ساحـة مثـالية لمخيلتـه الخلاقـة، حيث المسافة بين 'أنـاه' الشعرية وبين ما هو إلهـي تأخذ بالانحسـار، لترتقي هذه الأخيرة فيمـا بعد إلى ما يسميه أندريـه بروتون بـ 'النقطـة العليـا'، وهي منطقـة تلاقي الدنيوي بالسماوي والبشري بالإلهـي والترابي بالأثيـري. وكأن استعاضة سماء الداخل بسماء الخارج عند الشـاعر، تأتي كردة فعلٍ على المقتضيـات والشروط الأخلاقيـة الصارمـة التي تفرض بها الديانـات التوحيديـة على الإنسان بغرض تقريبـه من الحقـائق العُلْويـة. في هذا الصدد يشير الأنتروبولوجيـي روجيـه باستيد في دراسته عن 'معضلات الحياة الصوفيـة' بأنه 'في الوقت الراهن، يبدو التصوف كثأرٍ للفرد من الفروضـات الكنسية، حيث تتكسر غلواء تحليقـه. ولهـذا يصبح بمقدور الوعي الفردي إدراك الله من دون أي وسيط'. ومن أجل إدراكـه لتعاليـات فوق دنيويـة في تصوفـه الجمـالي اللاديني يستلهم أنسي الحاج عدداً من خصال الفنان الديونيـزي الذي يصف ملامحـه نيتشــه في كتابه 'نشوء التراجيديـا'. يسهل على المتتبع لأعمـال الشاعر اللبناني الملاحظـة بأن 'الكتابة الأنسيـة' إن جازت الصفـة، هي أبعد مـا تكون عن الفن الأبولوني (المستوحى من الإلـه أبولون)، وخصائصـه التي تتسم بالدعوة إلى الانضباط والانصياع إلى القواعد السائدة التي تحكم المجتمع، وأقرب مـا تكون إلى الفن الديونيـزي (المستوحى من الإلـه ديونيزوس)، ونزعاتـه التغييريـة التي ترفض التبعيـة العميـاء والرضوخ إلـى قيم وأخلاقيات الوسط المحيط. عن هذا التبـاين بين هاتين الرؤيتيـن الفنيتيـن اللتين كانـتا قد شاعتـا في اليونـان القديـمة، يقول نيتشـه بأنه في الوقت الذي يدعو أبولون 'إلى طمأنـة أفراد المجتمع برسـمه حدوداً من أمامهم تذكرهم وعلى الدوام بالقوانين العامـة والمقدسة'، يحـث ديونيزوس بدوره المرء على إلـهاب حواسـه لكسرالقيود التي تلجم حريتـه وتعابيره، حتى وإن اقتضى الأمر إثـارة الفضيحـة والخروج عن أحكام وشريعـة القانون. يكشف لنـا نيتشــه في 'نشوء التراجيديـا' بأن 'الديونيـزي إلهـاً كان أم إنسانـاً، هو الذي تضرم في عروقـه الحيـاة، فإذا بمقـدوره ليس مجرد الإمعـان بما هو غامض ومريب، بل بوسـعه أيضاً اقتراف ما هو مريع، واهبــاً نفسـه خطر التدميـر والإثـارة والرفض. فالاحـتدام واقتـراف الأذى والفظـائع تبدو لـه أموراً مستباحـة بموجب قوى خلقٍ تستطيع جَعـل البيداء ترابـاً خصبا'. قد تكون النزعـة في انتهـاك ما هو قيد التقاليـد والأعراف والتشريعـات الدينيـة أولى الصفـات التي تجمع بين الفنان الديونيـزي وبين مؤلف 'لن'، الذي أعرب ومنذ السطور الاولى التي خطهـا، بأن مشروعـه الإبداعي يقوم على أسـاس الهدم وإحلال الخلـل وانتهـاك التابوهـات. ومن أجل النيل من حجريـة النظام وتعسـفه، أعلن أنسي الحاج قداستـه للهدم معتبراً تكسير القوالـب الجـاهزة، فضيلة، لا بل واجـباً مقدساً. وهاهو يخـاطبنـا بهذه الكلمـات الناريـة ضارباً بيده على الطاولـة: 'على المحاوليـن، ليبجوا الألف عام، الهدم الهدم والهدم، إثـارة الفضيحـة والغضب والحقد، وقد يتعرضون للاغتيـال، لكنهم يكونون قد لفظوا حقيقـتهم على هذه القوافل التي تعيش للتوارث الانحطاط، وها هي تطمح إلى تكريس الانحطـاط وتمليكـه على العالم.أول الواجبات التدمير الخلق الشعري الصافي سيتعطل أمره في هذا الجو العاصف، لكن لا بد. حتى يستريح المتمرد إلى الخلق، لا يمكنـه أن يقطن بركانـاً. سوف يضيع وقتاً كثيراً، لكن التخريب حيوي ومقدس'. و 'التخريب الحيوي' الذي يحض عليـه أنسي الحاج ليـس في حقيقـة الأمر إلا لُب وجوهر الديونيـزيـة التي تُؤثر الحركـة على الركود بتجسيدهـا الرغبـة الدائمـة في الخلق والانبعاث والتغييـر، على عكس الأبولونيـة التي تكتفي بوضع هـالات حول النظـم الاجتماعية والقواعـد الأخلاقيـة لتحنيطها ومن ثم الإحـالـة بهـا إلى خانـة المقدس الذي لا يجوز المساس بـه. في وجـه التوتاليتارية الدينيـة والسياسية التي نعيش، يجهر أنسي الحاج بالصوت مستقيـاً من ديونيزوس أشد ما يعوزه العقل العربي في الوقت الراهن، الديناميكيـة، ليبتكـر في خواتمـه من الشعـر تمرينـاً روحيـاً وأداة جماليـة خلاقـة تسعى من أجل زعزعـة هذا البنيـان المرصوص لمقدسات وقيم ومعتقـدات آن لنـا أن ننفض غبار السنين عنها. إن كانـت تأمر بالعاصفـة وتنهـى عن السكون، فهـل يجب حرق 'خواتم' أنسي الحاج؟ فإن كان ولا بد، فلذر رمادهـا ونثره، كمـا تفعل الهنود، على هذه الأرض القحط كي ينـبت من عليـها حريـةً ووعوداً.
باحث مقيم في ألمانيـا
القدس العربي
0 التعليقات
إرسال تعليق