عناية جابر
فتحي أبو النصر، شاعر يمني لافت، وصحافي وناشط في حقوق الإنسان. الشاعر من مواليد 1976- تعز، له مجموعة شعرية عن الأمانة العّامة لاتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين تحمل عنوان «نسيانات أقل قسوة» كما مجموعة ثانية تحمل عنوان: «موسيقى طعنتني من الخلف». معروف عن أبو النصر ندرة ظهوره الإعلامي، ومزاجه الخاص في كتابة قصيدته. عن قصيدة النثر، وأمور ثقافية أخرى كان هذا الحديث:
تكتب قصيدة النثر بخصوصية لافتة، ما الذي تمّثلهُ لك؟
تمثل قصيدة النثر مسيرة معرفة جوانية ، وبالمعنى الحيوي هي التعبير عن كثافة الكينونة ، ونكبات الحلم رؤيوياً. إنها لاتنتهي ، وهي للانفلات من سلطة الراهن ، و للهث وراء ماتقوله الحواس . لكن من قال ان القصيدة تستأثر على اللغة فقط ، أو باللغة تماماً تستطيع ان تنفذ إلينا ؟ إن سلطة اللغة ، بزخرفها ، والتواءاتها ،وشفريتها ، واستبدادها على ذات المخيلة، تجعل من اللغة مؤامرة أيضاً ، فيما هناك مايسمى بماوراء اللغة كمثل بستان للمعنى وكظلال لهذا المعنى في آن ، وهناك بالتالي البعد المعرفي بمحمولاته النفسية والاجتماعية ، كما أن السمعي والبصري يلعبان صيغة اندفاعي للقصيدة في أهم مستوياتها بالنسبة لي ، وهما حبلها العلني داخلي ، فهل توجد اجابة شافية عن اين يذهب ذلك الشعور الذي كان هنا مثلاً، وهل الاستشفاف هو هذا الامتلاء المدوي ؟ على ان الموقف النثري للموسيقى كمثال أعلى شأناً من المجازي البسيط ، ويسري هذا الأمر كثيراً وفق إحساسي على السرد والدراما والابعاد السينمائية والتشكيلية وكذا المؤثرات الصوتية والمرئية داخل النصوص والقصائد الحديثة .
هل توافق على ما يُقال عن أن الراهن هو زمن الرواية؟
يقولون زمن الرواية وأقول الزمن للجمال دائماً ، الموقع الحاسم والأسمى هو للجمال . الفنون والاداب مكونات جمالية أولاً وأخيراً ، وبإختصار : الجمال هو الجمال ، في الشعر في الرواية في التشكيل ، وحتى في المطرقة .. الجمال هو المندفع فقط حتى في زمن التراجعات.
هل من مدينة عربية أو غربية برأيك، ما زالت حتى الآن تشكل متناً للفنون كافة؟
خارج التصنيفات الاصطلاحية الضحلة أيضاً : لامشرق ولا مغرب ، ولا هامش ولا مركز ،ولا متن ولا اطراف، فتلك الابعاد ، مجرد ابعاد تخييلية ، لاتتيح للفن ان يكون فسيحا كما ينبغي . تصنيفات بلهاء لم تعد تليق بالحاضر ، الحاضر الذي سقطت فيه كل المسافات، وأكثر.
هل أنت من الذين يُحمّلون القصيدة رسالة ما، هل الكتابة باختصار فعل احتجاج؟
نعم ..مثلما في الكتابة كذلك في المعاش ، في بؤرة الذات :يجب ان تناضل القصيدة ضد نظام الادلوجة اينما تواجد ، وهي حرية أناي العليا ، وسلامي الوجودي ، لانها سلسلة لامتناهية من الاستنارة النفسية والروحية والحسية ، ويمكنني أن اتراجع امام فكرة القصيدة في هذا السياق لصالح فكرة النص في الكتابة نفسها ، فالكتابة احتجاج خالص ،والنص يجسد التطلع للمتعة وللتحقق، كما يدين الاحساس الكامل بالفقدان واللاجدوى .
ما أخبار قصيدة النثر في اليمن، إلى أين وصلت برأيك؟
قصيدة النثر في اليمن وصلت برأيي الى اقصى حد من الابداع والوعي الكتابي، ومايميزها بشدة هو اندماجها بالواقع وتعاليها عليه ثم رفضها لهذا الواقع من اجل واقع أشد دينامية وجودية ، ففيها الكثير من وعي الإفاقة وهموم الفرد ضد الاستلاب بعكس حداثة وعي الغيبوبة المترسب في مجتمعات مجاورة مثلاً ،حيث وأن نشوء الهم الفردي الذي يتسق مع خرابات الاستهلاك هناك ، جراء الثروة المفاجئة، جعل ناقداً مرموقاً ومحترماً مثل محمد العباس يشير الى ان قصيدة النثر اليمنية هي قصيدة الشارع والحياة بامتياز . بمعنى أن قصيدة النثر اليمنية تبدو بمثابة صورة موضوعية لحداثتها غير الزائفة من خلال توافق الشكل والمضمون مع التوق الحلمي الحقيقي لنهوض أدب مكافح، رافض، منشق، يعاند كل المتاحات الضئيلة من اجل التحقق ، ويحترم الرصيف ، كما لاتخدعه حداثة المدن السريعة ، فيما لايتواطئ أبداً مع السلطتين الدينية والسياسية ، حيث وان منتجيها محكومون بالاغتراب والتغييب ، لكن مبهجهم التام هو التمرد من اجل السمو والخلاص ، أي أنها في سياقها الاجتماعي تتقدم بتحقيق منتهى الامكانية الجمالية ، وهي بذلك ليست محض حداثة خاوية تحوي مكابدات لغوية أو اسلوبية فقط ، كما أنها بصورة جدلية ليست ذلك الجمال الشكلي البائس والمفرغ ، وانما الحيوي والمتسق تماماً . وإذا كان الفن يرتبط بروح المجتمعات وقدرته على رصد تحولات الواقع والتمادي في نقده وأنسنته بفنية تامة وبدون مواربة ، أجدني أستغرب من ذلك الهم الوجودي لشاعر خليجي مثلاً والمتمثل في كيفية تغيير سيارتة كل شهرين ، فيما الشاعر اليمني يموت 25 ساعة في اليوم اذا كان اليوم 24 ساعة ومع ذلك فإنه يتخلق بإصرار ، إذ أن رهانه الأساس عدم الانجراف وراء التشيوء تحقيقاً للاثراء الروحي وللحرية اللامحدودة " بين بؤس الواقع ومتطلبات التعبير الاحدث (..) معرفياً وجمالياً "
هناك من يصفك بالجنون (بالمعنى الإبداعي) وبخروج كتابتك عن التوصيفات والأجناس؟ ماذا تقول؟
علينا الا نتعافى من الجنون بالطبع ، ان يتجاذبنا التبصر، وحنيننا الينا ، وان نخرج على الاجناس ، لندخل في الماهية المفتوحة للكتابة وللحياة . فللكتابة شهوتها الجامحة بتوحش رائق ، وهي تمضي إلى انواتي المتشظية وتلمها في مراودات الشك واليقين نحو إنتاج المعنى . إنها تلك المصيدة الجمالية اللامتصورة ، وهي تحتقن بخفق أجنحة الذات بإتجاه اللانهائي . فلتحيا الكتابة إذن مادامت الخسارات الحياتية هي الارجح . وحيث الفوضى والهذيان والهلع : تورطاتنا النصية في اللحظة المعاصرة :أعترف أن النص يسعى بي الى مايريد ، لكن تحكمي فيه يأتي بمقدار مايجلبه العشب للمنجل .
أيضاً معروفة عنك خشيتك قراءة قصائدك، وندرة مشاركاتك في المهرجانات!
حقيقةًً اخشى ان اقرأ قصائدي ونصوصي ، ففي ملتقى صنعاء للشعراء الشباب كنت في القاعة ولم تسمح لي حالتي النفسية ان اصعد للمنصة كي أقرأ ، كانوا يصرخون بإسمي وينظرون ناحيتي وكنت اتأملهم كحجر ..أما في الملتقى الثاني لقصيدة النثر بالقاهرة فقد قرأت بدفع حثيث من الاصدقاء لكني بمجرد ما انتهيت حتى وجدتني ارمي بأوراقي وديواني عاليا ثم اعوي .إننا نبحلق في الساحة الثقافية ، فينسلخ وجداننا للأسف .. على أن عواءاتنا لم تعد بسر، وأحيانا لا أشعر بالعالم إلا حين أعانق غرفتي لأيام وغالباً لأسابيع . موسيقى طعنتني من الخلف " مجرد قصائد ونصوص خارج تناسق المعنى التام وداخل الانفعال المجرد ، تحمل رؤى ومفاهيم وانساق تفكير وتعدد جمالي اركيولوجي كما احسب .فيما الكتابة احساسي بي وبالاخرين وبالعالم. وفي كل الحالات ليس النص سكونياً أبداً، لأنه يتحرك دلالياً وينمو ويتسع في العالم و الوجدان .
هكذا أنا حائر بيني وبيني ، وانا المهووس بفكرة الحرية ، وسيمترية التناسق في هذه الحياة ، لذلك تظل الكتابة هي الشيء الاكثر انتشارا ، وحتى من ناحية لاشعورية ، تبقى الكتابة بالنسبة لي فهمي الحثيث من الداخل، وموقفي الجمالي كملجأ . كذلك بملء ارادتي اخدم اخلاقي المجردة عبر الكتابة ، ولا ازعم اني انقذها . فمنذ تحولات الرؤى-في ظل التعقيدات الوجودية الكامنة- وتبدلات المفاهيم : آلت القصيدة من تاريخ القبيلة الى تاريخ الفرد ومكابداته اليومية ، ما جسده المفهوم المعرفي للمطرقة لدى نيتشه مثلاً. وفي العادة اقامر ليس بالرؤى الحاسمة، وانما بعدم انفصالي عني ، أي بتوازني بين ذاتي والعالم ، بمعنى أنني احاول عبر القصيدة ان اقف بمواجهة الاضطهاد الوجودي حتى وان تطلب الأمر أن أقامر بنشوة الشغف ولو وهماً .
ثمة خيبة وانكسار في الحديث معكوسين على قصائدك، هل قدر الشعر الخيبة؟
إن التحولات والخيبات والاحلام خلاصتنا كأنسانيين في القصيدة ، لكن من قال ان الشعري شرطا للانساني أو أن الانساني شرطا للشعري مثلاً ؟ أنا في داخلي حالة ذئبوية شاسعة ، وأرى في الحيوانية شعرية مجردة اكثر استطاعة ،لأنها تمثل الدربة العاطفية من اجل تكيفنا بأضدادنا كمادة للوعي واللاوعي داخل النص والحياة ، أو بصفتها تأتي كتدعيم لبحثنا عن الحيوات الاخرى ،بمعنى انها عنفوانية امتثالنا الرقيق لقيمتي الهوس والشغف الحسيين من منطلق حيواني مافوق إنساني ، لأن الحيوانية الجمالية في هذا المنحى مأوى للانسانية كما صرت اظن ، كما انها المسلكية المثلى في استيعاب الكون والنفس داخل القصيدة الآن . و باعتقادي فان ذلك هو رحيلنا المهم والرهيب إلى الداخل وماوراء الذات نفسها ، حيث السخرية داخل ذروة البوح أو التهكم في نطاق العواء بمثابة إيجاز للوجود وللعدم.
لدى كل شاعر حنينا عارما الى ماليس يعرفه كما يشير فيشر ، واما الكتابة فهي ماتجعل الانسان انسانا. لكنه النقد المتكوم على ركامه ، النقد اللامتعمق ، النقد الشللي التلميعي، نقد الكسالة الذهنية للأسف هو القائم الآن، ولقد صارت ملفوظات النقد سلعية اكثر من اللازم ، وهناك النقد الشمولي ، النقد ذو البعد الواحد ، ذلك الذي يتعامل مع النظرية فقط ويعجز كثيراً عن التجاوز ، بينما صار الفعل النقدوي لايعمل من أجل تحفيز التغيرات الكتابية الراهنة بالشكل المأمول أبداً ، إذ أنه يعجز جمالياً عن المعطيات الجديدة إلا ماندر.
__________________________
عن السفير اللبنانية
0 التعليقات
إرسال تعليق